الانحناء للعاصفة.. هل ينقذ نظام طهران؟

الانحناء للعاصفة.. هل ينقذ نظام طهران؟
آخر تحديث:

بقلم: د. ماجد السامرائي

لا شك أن خطوة الاتفاق الدبلوماسي للمصالحة السعودية – الإيرانية عبر الرعاية الصينية في العاشر من مارس الحالي لاقت ترحيباً عربياً وإقليمياً ودولياً عاماً، والعراقيون كشعب يرحبون بها كخطوة أولية نحو نزع فتيل التوتر بين بلدين مجاورين مسلمين، أبناء العراق أكثر من غيرهم رفضاً للنزاعات والأزمات التي أوجعتهم حين قادت إلى حرب ثماني سنوات راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان، تبعتها آلام نتائج الحصار والغزو العسكري الأميركي.

لم تصدر تفصيلات مضافة للبيان الدبلوماسي العام، فمجمل التصريحات الإعلامية لمسؤولي خارجيتي الرياض وطهران عبّرت عن ارتياح وتمنيات للخطوات المهمة لتحويل المبادئ العامة الواردة في البيان المشترك إلى بنود لحلول متعددة منتظرة، فالاتفاق يخضع لاختبار الزمن.ورغم الصدمة الأميركية تجاه الاتفاق الأولي بالرعاية الصينية، عقّب مسؤول في البيت الأبيض في ذات يوم صدور البيان “لطالما شجعنا على الحوار المباشر والدبلوماسية للمساعدة على خفض التوتر وتقليص أخطار النزاع”. الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي قال “سنرى إذا كان الإيرانيون سيحترمون جانبهم من الاتفاق فهذا ليس نظامًا يفي بكلامه عادةً”.

أولى علامات ردود فعل واشنطن تكذيب الخارجية الأميركية بتاريخ 12 مارس تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان عن توصل إيران والولايات المتحدة إلى اتفاقات مبدئية لتبادل السجناء “التصريح كذبة أخرى قاسية بشكل خاص لا تؤدي إلا إلى تفاقم معاناة عائلات المواطنين الأميركيين المسجونين في إيران”.

باحثون وسياسيون أميركيون من خارج الدوائر الرسمية رغم ترحيبهم بالبيان السعودي – الإيراني المشترك إلا أنهم شككوا بالتزام طهران كعادتها. ويرى كبير الباحثين بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي كريم سجادبور أن “هجوم إيران عام 2019 على منشآت شركة أرامكو أظهر للرياض أن الولايات المتحدة لا تستطيع حمايتها من إيران، ونظرا إلى النفوذ الهائل للصين على إيران واهتمامها بالاستقرار الإقليمي، تأمل السعودية على الأرجح أن يوفر لها هذا الاتفاق درعا صينيا يحقق الاستقرار في المنطقة”.

الموضوع متعدد الجوانب، تختلط في ردود فعله الأماني والتوقعات داخل العالم العربي، خاصة بين فريقي الدعم للنظام الإيراني أو السعودية، بعض الكتاب العرب المؤيدين لطهران بالغوا فتوقعوا انتهاء الصراع التاريخي الشيعي – السني.

السعودية وإيران ليستا دولتين هامشيتين من حيث الأيديولوجيا والاقتصاد. ثقل السعودية أنها مركز روحي لجميع مسلمي العرب والعالم. وفي إيران شرّع الخميني منذ 1979 دستور نظام الولي الفقيه الشيعي الاثني عشري، ليس لإيران فقط إنما لكي يسود العالم الإسلامي وبلدان الجوار في مقدمة الطريق.لا يتوقع أن تتنازل السعودية أو إيران عن مشروع قيادة العالمين العربي والإسلامي؛ الصراع نشأ بين الدولتين منذ مجيء الخميني إلى السلطة في طهران. والاتفاق إذا ما نجح هو سياسي أمني، فكلا الطرفين السعودي والإيراني لديهما حاجة لخفض التصعيد والتوتر الذي سيؤثر على عموم المنطقة. سعت الرياض خصوصاً بعد قيادة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لبناء علاقات حسن جوار بين دولتين مسلمتين.

وفي طهران علي خامنئي ولي الفقيه المرشد الأعلى هو المرجع الأول والأخير في جميع القرارات الداخلية والخارجية الإيرانية، يتبع له مباشرة الحرس الثوري، وهو القوة العسكرية والأمنية والاقتصادية الأولى في البلد، كذلك مجلس الشورى والحكومة. هذه الازدواجية بين المرجع الشيعي الأعلى والدولة أكسبت طهران خصوصية اللعب في السياسات الخارجية.

مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، إذا ما تم الالتزام الفعلي به يُعتبر انقلاباً جذرياً على إستراتيجية نظام ولاية الفقيه الذي يقوم على مبدأ “تصدير الثورة”، وهو الأمر الذي يستدعي وفق فقهاء القانون السياسي إعادة تعديل الدستور الإيراني ونسفاً كلياً لإستراتيجية تلك النظرية، وهذا لن يحصل.هناك لعب ومراوغة في التعاطي السياسي الخارجي، القدرة على التنصل من المسؤوليات وفق الحاجة بعد سيطرة النظام على العراق وسوريا ولبنان واليمن وزرع وكلاء زعماء لميليشيات مسلحة ورعايتهم، فالاتفاق إذا ما سار في خطواته المتفق عليها لا يتوقع أن يمسّ ملفات شائكة تعاني منها شعوب العراق وسوريا ولبنان، رغم ما سيحدثه من هدوء عام. فالعراقيون بلا مبالغة أكثر شعوب المنطقة دراية بأساليب هذا النظام وخداعه قبل عام 2003 وبعده.

منذ عودة الخميني إلى إيران عام 1979 بادر النظام العراقي بإرسال برقية تهنئة له، داعياً إلى بناء علاقات حسن جوار بين الدولتين، فكان جواب الخميني “لا سلام إلاَّ مع من اتَّبع الهدى”. ولم يقف عندها، بل وجد الرد السلبي صداه، عندما ابتدأت الاعتداءات الإيرانية على الأراضي العراقية قبل بدء الحرب الفعلية عام 1980 بتشجيع من أميركا وبلدان الغرب.كذلك خص الخميني السعودية بنصوص “الوصية الإلهية” التي نُشرت بعد وفاته، وحثَّت على “لعن نظام آل سعود في كل مناحة يقوم بها الشيعي في طقوسه الحسينية الخاصة بشيعة ولاية الفقيه”.

طهران تداري مصالحها الخاصة فقط، وتنقلب على المواثيق والتعهدات بسهولة دون مداراة لمصالح حتى البلدان التي تهيمن عليها بواسطة وكلائها كالعراق مثلاً، لا فرق لديها إن كان الحاكم صدام حسين أو مجموعة أدعياء الإسلام الشيعي. العراقيون يختزنون في ذاكرتهم أحداثاً كثيرة تؤكد عدم التزام النظام الإيراني بالعهود والمواثيق، وهذا ما يتوقع حصوله مع السعودية إن نفذت بنود الاتفاقية الثنائية.

أمثلة عديدة تنصلت طهران فيها من اتفاقياتها وتفاهماتها الثنائية مع بغداد، نذكر بعضاً منها:

عدم التزام طهران باتفاقيات الحدود بين البلدين منذ اتفاقية عام 1937، كذلك اتفاقية الجزائر عام 1975 برعاية الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، التي نظمت الحدود العراقية – الإيرانية خاصة “شط العرب” وفق خط التالوك، وما زال النظام الإيراني مصراً على عدم العودة إلى تلك الاتفاقية رغم ملكية المناصفة الثنائية لهذا الممر المائي.

ملف الطائرات العراقية وعددها 146 طائرة مدنية وعسكرية التي أودعها النظام السابق عام 1991 بعد شعوره بأن الضربة الأميركية ستدمر القوات الجوية العراقية المدنية والعسكرية، رحّبت طهران بالعرض العراقي لقلقها بأنها ستكون الهدف التالي بعد حرب 1991 مع العراق. لكن بعد مرور حرب عاصفة الصحراء البعيدة عن إيران اتخذ نظام طهرن عام 1992 قراراً بمصادرة الطائرات العراقية الوديعة واعتبارها جزءاً من تعويضات حرب الثماني سنوات في تخل عن أبسط قواعد الأخلاق وقيم الجيرة. بعد عام 2003 طالب المسؤولون الحكوميون في العراق بعودة تلك الطائرات المدنية التي ضمتها طهران لأسطول خطوطها الجوية، رفضت طهران ذلك، لكنها أعادت بعض الطائرات العسكرية بسبب عدم قدرتها على توفير التدريب والصيانة، مما يؤكد سياسة المصالح النفعية، وكذبة الوحدة العقائدية الولائية.

رغم أن النظام السياسي في العراق مُدار فعلياً من قبل نظام ولي الفقيه الإيراني لكنه لم يقدم لأحزاب هذا النظام ما يعينها على الافتخار بهذه التبعية المرفوضة من قبل شعب العراق في مقدمتهم الشيعة. ونفذت طهران خطوات منع المياه عن العراق بتغيير مجرى نهري الكارون والكرخة اللذين يصبان في شط العرب مما أدى إلى التصّحر الذي عقد رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني مؤتمراً استعراضياً حوله.

ملف الأسرى العراقيين في سجون إيران، وهو ملف إنساني منذ الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988 رغم وفاء الجانب العراقي بعودة جميع الأسرى الإيرانيين مباشرة بعد قرار وقف الحرب بين البلدين، فلا يزال نظام طهران يحتفظ بالآلاف من الأسرى العراقيين ما بين متوفى ومريض، أغلبهم من الشيعة الذين يدعي النظام الدفاع عنهم .

ملفات كثيرة ومعقدة لا يتوقع لهذا الاتفاق البحث فيها لأنها تتعلق بجوهر قيام نظام ولي الفقيه الفارسي وتخريبه للمنطقة، فحالياً يخضع النظام لنظرية “الانحناء للعاصفة المقبلة” التي يجيد تنفيذها ببراعة. ومتوقع أن الجانب السعودي سيركز على الملفات المباشرة التي تهم الأمن الوطني السعودي المباشر، في مقدمتها ملف الحوثيين في اليمن وإعادة الحوار الوطني السياسي اليمني لإحلال السلام في هذا البلد وتخلص الرياض من الأضرار الأمنية المباشرة.

هذا الملف لوحده ينفتح تحت تفصيلاته المباشرة ملف الحرس الثوري ونفوذه في العراق وسوريا ولبنان وليس اليمن وحده. فنظام طهران لا يقبل اللعب بهذا الملف الحيوي الذي يشكل عقدة تصدير الثورة الإيرانية والذراع الأقوى لصناعة السياسة الخارجية الإيرانية وتنفيذها. ولا ننسى أن كوادر الخدمة الدبلوماسية الإيرانية من مرتبة السفراء فما دون هم من الحرس الثوري – فيلق القدس المسؤول عن الميليشيات في المنطقة العربية ومن ضمنها بلدان الخليج.

في هذا الوقت الذي لا تعرف فيه الخطوات المقبلة على طريق نجاح مهمة تفكيك التوتر السعودي – الإيراني يتبارى بعض السياسيين العراقيين الموالين لطهران في المنافسة على من كان له دور الخطوات التمهيدية للاتفاق السعودي – الإيراني، الذي لم يتعد الإشادة الإعلامية بذكر اسم البلدين العراق وعُمان بعد أن أصبحت دولة كبرى (الصين) هي الراعية.

رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبدالمهدي المتورط بملف قتل شهداء شباب أكتوبر ومن أكثر المخلصين لسياسات نظام طهران في العراق يحاول استعادة حضوره حيث نشر بيانا صحفياً عن دوره كناقل رسائل، وخلفه مصطفى الكاظمي، بين الرياض وطهران. الأكثر وضوحاً هو الدور الرئيسي للجنرال الإيراني الراحل قاسم سليماني في الإشراف على المنطقة سياسياً وأمنياً، ومقترحات ولي الفقيه علي خامنئي للتهدئة في المنطقة للمحافظة على الموجود وهو الهيمنة الإيرانية على أربع دول عربية.

حاول عبدالمهدي إثارة اهتمام أولياء أمره في طهران، لذا عمد إلى إعلان تفصيلات مشروع قاسم سليماني عام 2019، حيث أرجع الفضل في الاتفاق الحالي إلى وليّ أمره الراحل سليماني، ونشر مقترحاته في ملفات أهمها الملف اليمني والتعهد بتهدئة لعشر سنوات ولا غالب ولا مغلوب، وحلّ مشترك في سوريا وليبيا وضمان الملاحة في الخليج.. الخ.

الأيام المقبلة شاقة على نظام طهران الذي يقف على الهاوية، لا تعطل مصيره الاتفاقية مع السعودية، أهمها مضاعفة مستويات العقوبات الأميركية ومحاصرة وصول الدولار المهرّب من العراق إلى طهران، والأخطر الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية لضرب المنشآت النووية.. لن تنفعه معها فكرة الانحناء للعاصفة المنتظرة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *