النظام السياسي في العراق يشبه الأمراض المزمنة، أو بالأحرى الأمراض التي لا علاج لها ولا تنفع معها مهدئات ومسكّنات الألم، إلا إن هذه المهدئات مع ذلك تمنع استنفار المرضى في مواجهة الصدمة للبحث الجاد عن علاج فعّال ضمن جدول زمني محدد لا يخضع للتجريب والاحتمالات والتوقّعات، لأنها ترتبط بمخاطر الموت لغياب التشخيص الدقيق ونقص العلاجات والخبرات الطبية في أجزاء الاختصاصات.
حالة الفوضى وضياع البوصلة وخيبات الأمل في النظام أفقدت العراقيين جاذبية الوطن، حيث مكامن القدرة على صياغة ثبات عقدهم الاجتماعي الذي يمنع عنهم الانفراط أو الانفلات في تجمّعات خاصة، إن كانت صغيرة أو كبيرة أو على اختلاف خصوصياتها القومية والدينية والمذهبية والإثنية.
القرارات الدولية والعقوبات أطلقت النار على العراق قبل الاحتلال في أبريل من العام 2003، والولايات المتحدة الأميركية لم تكن تنقصها المعلومات عن موت الأطفال بالجملة جرّاء نقص الغذاء والدواء، وتأثير الحصار على تدهور الاقتصاد وتراجع الخدمات وتفاقم الأزمات.
احتاج الاحتلال إلى سنوات لتدريب العملاء المتمرسين في خيانة بلادهم، ليصنع منهم حكاماً ببرامج افتراضية معلنة ومكشوفة، لاغياً ذلك الحاجز القديم بين سرية العمالة والتستر على فضيحة التعاون مع أجهزة مخابرات أجنبية؛ أي إن جريمة احتلال العراق تمت في وضح النهار وبسبق إصرار وتعمّد من أحزاب وأفراد بعمائم أو بدونها وبلا وجل من أوصاف الخيانة.
مصائب قرارات الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في حل الجيش العراقي والمؤسسات كانت بدراية تامة من العملاء تحت الطلب.لكن حتى العملاء أحياناً ومن تجارب الشعوب تلتمع لديهم في لحظة الحقيقة المُذلة شيئاً من نوازعهم الشخصية في رفض الانصياع لعصا سيدهم، عندما يتعلق الأمر بكارثة مقبلة قد تؤدي إلى تفكك قواعد الدولة الضامنة للأمن والاستقرار، وهي قواعد في كل الأحوال تعتبر ضمانة نجاح لأي سلطة وأي حكم.
هل احتاجت الولايات المتحدة الأميركية لسنوات مماثلة لزمن الحصار، بل أطول، لتتيقن وبعد كل الإخفاقات ومهازل الإبادات والرعب والتدمير من فشل الحكومات المتعاقبة وفساد الأحزاب الحاكمة بتنوع مرجعياتها الدينية والسياسية؟ أم إن أميركا هي التي أبقت على الحبل السري التي تعتاش عليه الطبقة السياسية التي صنعت من فكرها المتخاذل وشخوصها الهزيلة منذ أيام ما يعرف بالمعارضة هذا النموذج من الحكم.
الاستثمار في الصراعات لا يمكن أن يستمر على طول الخط أو يتجدد عند كل فترة انتخابية، إذ قد تتحول هذه الصراعات إلى فوضى خلاقة بعد تجربة سنوات من الاستخفاف بعقلية المواطن والمداورة بالأدوات القديمة المستهلكة
ما يجري في العراق هو أولا وأخيرا من صنع الاحتلال الأميركي، والمحاصصة الطائفية كانت وبالا في الماضي والحاضر وعلى مستقبل العراق حتما، وما مفردات بيئة ومكونات وحواضن وشراكة وتهميش وإقصاء وحتى إرهاب، إلا برنامج لمتعهدي استغلال وتوريط نسبة كبيرة من شعب العراق في حفرة المحاصصة واحتكار السلطة بزراعة الخوف من أجل حصاد انتخابي جمعي بالمقابل.إلى أين يتجه من تتم محاصرته بالقتل والتجويع والانتقام، والأخطر تطويقه بالكراهية وتقسيمه إلى أشلاء وأرقام بلا محتوى وهويات للاستهداف والمهانة والملاحقة بالتهم والسجون وممارسات متوحشة يندى لها الجبين، والغرض منها دائما جر المواطنين إلى ساحة من التناحر وبانتماءات طارئة وفرعية وبمسرحيات لا يتقبّلها منطق أو بقايا عقل، إلا طبعا عقل يريد تعجيل النتائج بضغط الزمن للحصول على الفوضى المطلوبة.
يبدو أن ما مر من خطوب على العراق ليس كافيا، وهذا التحشيد في الأكاذيب والمشاريع والأسلحة وفرض الأمر الواقع وراءه أكثر من هدف؛ لكنها أهداف ستلتقي عند نقطة فوضى شاملة تصب في مصلحة الدفاع عن النظام الإيراني وعقيدته في الهيمنة على العراق بالتفتيت وخلق فرص العنف المتبادل مجددا، إذا لم يتوقف العراقيون ليتأملوا أسباب فرقتهم ومن يدفع بها إلى ذات الزاوية في إعادة التصعيد الطائفي أو القومي أو تنفيذ سياسات الاستعلاء والتفرد والتهجير.الاستثمار في الصراعات لا يمكن أن يستمر على طول الخط أو يتجدد عند كل فترة انتخابية، إذ قد تتحول هذه الصراعات إلى فوضى خلاقة بكل معنى الكلمة لشعب العراق بعد تجربة سنوات من الاستخفاف بعقلية المواطن والمداورة بالأدوات القديمة المستهلكة، وذلك سيحدث في لحظة ما عندما تنتهي طاقة الأجزاء المتناثرة بفعل صدمة الاحتلال الأميركي وسياسة ملء الفراغات للمشروع الإيراني.
ستعود الأجزاء إلى مصدر طاقتها الأمّ لتنهل قوة وحدتها. فالثورات أيضا تطبخ على نار هادئة وبعضها على نار هادئة جدا، لكنها تؤدي مهمتها في معاقبة من أعاق حركتها وارتكب أفدح الأخطاء في اعتقال جذوتها والاستهتار بها كما يفعل عملاء إيران في العراق.لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، وفي الكتلة الإيرانية الأكبر تحديدا، يطلب من حكومة حيدر العبادي أن تطلب، بدورها، من الولايات المتحدة سحب قواتها لانتهاء مهمة القضاء على إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، في محاولة استعراضية لتخفيف الشد والجذب بين الاحتلالين، وفرض حقيقة انتماء العملاء وولائهم إلى النظام الإيراني في رسالة تم اجترارها مرارا وتفهمتها أميركا، ولذلك تتصرف معها بآلية عدم الاكتراث، وهي أقرب إلى معرفة الجناة لبعضهم ولملابسات جريمتهم وتقاسم غنائمهم.
حيدر العبادي يقول إن العراق أرض الفرص، وهي فعلا كذلك لهم بمقياس سلطتهم التي تركت العراق أرضا في طريقها إلى إصدار أحكام الإعدام على الصناعة والزراعة والتجارة والطب والتعليم والبنى التحتية، وعلى الإخاء المجتمعي بنسيجه الذي كان واعدا في عدد المتعلمين والمبدعين في كل المجالات العلمية والأدبية والفنية والإنسانية، وما تميزوا به من تواضع رفع مقام العراق وطموح شعبه في التحضر ومواكبة العالم المتمدن.لا ذنب للطوائف والمذاهب في ما وصل إليه الحال في العراق، ولا الذنب مرتبط بإيران كدولة جارة لها مصالحها كباقي الدول أو بشعبها؛ إنما المعضلة في صدمة الاحتلال الأميركي وتفاهماته من خلال وسيط ناقل لمزاجات الإدارات الأميركية في جسد النظام الإيراني المصاب أصلا بالعاهات والأمراض التاريخية المزمنة التي لا شفاء منها؛ وبتمكينه من السلطة وإطلاق مشروعه الخرف كوباء بين أبناء العراق، لأن الولايات المتحدة تعرف جيدا خبرة نظام الملالي في فك شيفرة أسرار قوة العراق. تلك الخبرة التي مهّدت أولا للاحتلال الأميركي ثم لتمدد الإرهاب في المنطقة.