بعودتنا بالزمن الى الوراء قليلا، نستذكر النداءات الملحة بتغيير النظام البرلماني الى نظام رئاسي، بعد أن طفحت على سطح العراق تبعات وعواقب سياسية واقتصادية واجتماعية، على يد آفات تولدت ونشأت وترعرعت تحت قبة مجلس النواب، ولقد ثبتت سلبيات النظام البرلماني ومساوئه على يد المتحكمين بالقرار العراقي، وغدا الجميع – من الشرفاء حصرا – يلعن لحظة إعلان تشكيل البرلمان، وباتت الدورات التشريعية كل أربع سنوات نذير شؤم، بعد أن أيقن العراقيون أن هؤلاء الـ (328) نفرا، لن تجود سماؤهم إلا بحجارة من سجيل، يقذفون بها على أم رأس المواطن المسكين.
نعم، هذا الذي حدث – ومازال يحدث – وهذا ماجناه العراقيون من إدارة النظام البرلماني، إذ تناسل هذا النظام في العراق الجديد، فوُلد التوأمان الشرعيان له؛ المحاصصة السياسية والطائفية الحزبية، واللذان بدورهما خلفا كل أشكال الفساد بصنفيه المالي والإداري. وليست ببعيدة التظاهرات التي ملأت فترة زمنية لايستهان بها، شوارع المدن والأقضية والنواحي في محافظات العراق كافة، مستنكرة ومستهجنة النظام السياسي المتبع، والذي أثبت بما لايقبل الشك عدم جدواه في النهوض بالبلد، الى حيث يليق به كبلد يطفو على بحر من النفط.
وبصرف النظر عن التغيرات السياسية الشكلية، المراد منها إضفاء مسحة جدية التغيير على العملية السياسية البيروقراطية، وإبرازها بوجه حسن كقناع يخفي وجهها القبيح، فإن وضع بلدنا اليوم لا يسر صديقا ولا يبغض عدوا، حيث أوصله ساسته بنظامهم البرلماني الى بلد حاصل على الدرجات العليا والمواقع المتقدمة بين بلدان العالم، إلا أنها في إحصائيات الفساد والجريمة، علاوة على إفراغهم خزينته من المال، وعزمهم على تعرية أرصدته في البنك الدولي من غطائه الذهبي، ماينذر بعاقبة سيئة بل سيئة جدا في المستقبل القريب والقريب جدا، قد تمتد الى البعيد والبعيد جدا، كما أن قادم الأيام سيكون شد الحزام عن آخره خيارا لا ثاني له أمام العراقيين، والبركة قطعا بالأخطاء المتكررة في المجلس التنفيذي والمجلس التشريعي بدوراتهما المتعاقبة كافة.
والراية البيضاء هنا -بعد أن سوّدوها- بات حتميا رفعها زمانا ومكانا، كون العراق يعيش حربا طاحنة، تهون أمامها الحرب ضد الإرهاب، فالأخيرة كانت تقتصر على تطبيق (الفرضة والشعيرة) و “مد خط وهمي من عين الرامي الى الهدف” وبشيء من الذخيرة الحية، والتحضيرات اللوجستية، وضمان الإمدادات التعبوية، وتهيئة سقف جوي، وإسناد مدفعي وهندسي. وبتوفير هذه المعطيات مجتمعة، أتت المعارك ضد الإرهاب مضمونة النتائج لصالح العراق والعراقيين.
نعم، فمع ويلات الحرب ضد الإرهاب وأهوالها، نحن أمام حرب أكثر ضراوة، تلك هي الحرب ضد الفساد، والتي لن يدخل الزناد كأداة من أدوات القضاء عليه، ولن تجدي الرصاصة كوسيلة ردع ضد عناصر الفساد، كما أن البنادق والخنادق ليست خيارا موفقا لمجابهته والتغلب عليه، أما الوقوف ضده، فلن يقتصر على جيش أو قوات مسلحة أو أمنية فحسب، فبدءًا من المواطن، أبسط مواطن، الى الرؤوس في الحكم، مرورا بشرائح الشعب كافة بمؤسسات البلاد جميعها، تتبلور مسؤولية التصدي لعناوين الفساد، دون محاباة ومواربة وتواطؤ، وبغير هؤلاء جميعهم، ومن دون موقف موحد منهم، ووقفة جادة حازمة، وتدابير صارمة لاتذللها الإخفاقات، لن يوفقوا بالقضاء على الفساد، وسيبقون حينها (محلك راوح) فيما يبقى الفساد تحت إيعاز (إلى الأمام سر).