احتلّت دمشق بعد القاهرة الموقع الأول للعلاقات العربية – السوفيتيية في مطلع السبعينيات، وإن كانت بغداد قد سبقتها إلى ذلك، بتوقيع معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفييتي في 9 نيسان (ابريل) العام 1972، لكن سياساتها غير المستقرة وفيما بعد ظروف الحرب العراقية – الإيرانية وما تلاها، جعل دمشق مركز الثقل في علاقات موسكو بالعرب، خصوصاً بعد توقيع معاهدة الصداقة والتعاون السورية السوفييتية في كانون الأول /ديسمبر1980، وكلا المعاهدتين لا تزالان قائمتين، وإن زال الاتحاد السوفييتي وإنْ أطيح بالنظام العراقي، لكن المعاهدات التي كانت الدولة السوفييتية، قد التزمت بها انتقلت في غالبيتها الساحقة إلى الاتحاد الروسي .
نجاح الفريق عبد الفتاح السيسي قائد الجيش المصري دفع موسكو سريعاً إلى الساحة لمغازلة القاهرة
كانت مصر مغرية للنفوذ السوفييتي في مواجهة حلف بغداد ولم تكن موسكو تتخيّل أن تتطور علاقاتها مع القاهرة إلى الحد الذي وصلت إليه، لكنّ مواقف وزير خارجية واشنطن جون فوستر دالاس السلبية إزاء مصر دفعت القاهرة لتصبح حليفاً لموسكو ومركزاً للاهتمام السوفييتي بقضايا العالم الثالث، وذلك منذ صفقة السلاح التشيكي في العام 1955، وفيما بعد خلال العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي الإسرائيلي عليها في العام 1956.
وارتفع رصيد مصر لدى السوفييت بشكل خاص بعد قرار جمال عبد الناصر رفض مساعدة البنك الدولي المشروطة لبناء السد العالي والتوجه إلى موسكو العام 1960، وتعزّز الأمر بعد العدوان الإسرائيلي في 5 حزيران (يونيو) العام 1967، حيث احتل جمال عبد الناصر موقعاً متقدماً لدى القيادة السوفييتية، واعتبر حينها قطب الرحى في حركة التحرر الوطني العربية والعالمية في مناهضة المشاريع الإمبريالية، وقد أمدّت موسكو القاهرة بالسلاح والدعم السياسي والاقتصادي، الذي ساعدها في حرب الصمود والاستنزاف التي استمرت لنحو ثلاث سنوات، وكانت العلاقات تتطور بصورة مضطردة لولا قرار الرئيس محمد أنور السادات بالاستغناء عن خدمات الخبراء السوفييت والتوجه إلى واشنطن بزعم أن 99% من أوراق الحل بيدها، لاسيّما فيما يتعلق باستعادة سيناء وقضايا الصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك عشية حرب تشرين الأول (اكتوبر) العام 1973، التي أريد لها حرب تحريك وليس حرب تحرير، لا سيّما بإضعاف العلاقة المصرية- السوفييتية.
موسكو عرضت على القاهرة صفقة سلاح طائرت حربية متطورة ومعها برامج تدريبية عسكرية وتقديم قمر صناعي لملاحقة الارهابيين في سيناء
وقد حاولت موسكو بعد الضربة التي تعرّضت لها استراتيجياً تعويض خروجها من مصر بالتحوّل نحو سوريا، وكان ميناء طرطوس تعويضاً لها وبديلاً عن الموانئ المصرية، وإن كان هناك فوارق معروفة من الناحية السياسية والعسكرية، على الرغم من موقع طرطوس على الساحل الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، ومع ذلك فقد كانت خسارة موسكو كبيرة جيوسياسياً ، فقناة السويس تشكل أهمية حيوية بين آسيا وافريقيا، إضافة إلى كونها ممرّاً مهماً باتجاه الدردنيل والبوسفور المنفذ الروسي الذي ظلّت الإمبراطورية الروسية منذ عهد كاترين الثانية تحلم به بشأن المياه الدافئة.
لقد كان التنافس الأمريكي – الروسي على أشدّه في السبعينيات، وكانت واشنطن مثلما هي موسكو تريد كسب قلب القاهرة التي هي مركز العرب الأول بشرياً وحضارياً وعلمياً وثقافياً، وهو الطريق نحو عدد من العواصم العربية، واليوم يعود التنافس الروسي – الأمريكي إلى الواجهة، لاسيّما بعد خسارة روسيا في ليبيا، وقبل ذلك في العراق، فبعد نحو أربعة عقود من انخفاض منسوب التوتر جاءت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 لتعيد إلى الأذهان محاولات مصر إقامة علاقات متوازنة مع القطبين، وهو ما نظرت إليه واشنطن بارتياب كبير لأنه يشكّل من وجهة نظرها تهديداً لمصالحها الاقتصادية والسياسية الحيوية، خصوصاً وأنها تقدّم دعماً مالياً لمصر، لولاه لكانت أزمتها أشد وطأة، لكن الإدارة المصرية الجديدة ما بعد الثورة أظهرت نوعاً من الاستقلالية أو الحرص على عدم قبول شروط التبعية السابقة، وذلك من أجل خلق شكل من أشكال التوازن الدولي .
واشنطن لا تريد استخدام آلتها العسكرية لا سيما قوّاتها البرية للتدخل لما جلبه من نكسات على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري والأخلاقي
وكان نجاح الفريق عبد الفتاح السيسي قائد الجيش المصري بالتدخل لحسم الصراع بين الأخوان والرئيس مرسي من جهة، وبين الملايين المحتشدة والمطالبة بالتنحي من جهة أخرى قد وضع العلاقات الأمريكية – المصرية والمصرية الغربية بشكل عام أمام تحدّيات جديدة، الأمر الذي دفع موسكو سريعاً إلى الساحة لمغازلة القاهرة عن طريق عروض سياسية وعسكرية واقتصادية، ليس بعيداً عنها دورها الحالي في سوريا وموقفها في مجلس الأمن، وهو ما جعلها رقماً غير قابل للتجاوز في إطار حل الأزمة السورية في أية ترتيبات دولية لاحقة.
وقد عرضت موسكو على القاهرة خلال زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف صفقة سلاح طائرت حربية متطورة من نوع ميغ ومعها برامج تدريبية عسكرية وتقديم قمر صناعي بخصوص ملاحقة الارهابيين في سيناء، لا سيّما بعد عدد من العمليات الارهابية والمواجهات المسلّحة، منذ الإطاحة بالرئيس مرسي.
إن القرار الروسي السريع يعني محاولة اختراق جديد للخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط في إطار تمدد ستراتيجي إضافي يبدأ من طرطوس ليصل إلى قناة السويس، الأمر الذي سيعني صعود التنافس الروسي – الأمريكي إلى أقصاه، فالولايات المتحدة لن تتخلى عن مصر بسهولة ولن تستسلم لخطة موسكو الاختراقية لأنها تتعلق بالشرق الأوسط ، ولا سيّما ما له من إلتزامات إزاء حليفتها “إسرائيل” وستعمل على الضغط على موسكو إقليمياً لكبح جماح أي ترتيبات إقليمية في إطار تحالفات في المنطقة تؤثر على القضايا الحيوية الاستراتيجية الأمريكية – الإسرائيلية، أو ما تسميه بأمن “إسرائيل”.
وبالطبع هناك ثمة عقبات أمام التتمدّد الروسي، فروسيا غير الاتحاد السوفييتي عسكرياً واقتصادياً، ومصر السيسي هي غير مصر عبد الناصر، وإذا كان الاتحاد السوفييتي قد سقط في فخ حرب النجوم وسباق التسلح ودفع ثمن الحرب الباردة باهظاً وتخلّى عن امبراطوريته الاشتراكية، فهل ستكون روسيا اليوم جزءًا من حرب باردة جديدة قد تدفع المنطقة إليها بالكامل، خصوصاً والأمر لا يتعلق بطموحات آيديولوجية، بل بمشاريع اقتصادية وحيوية مثل النفط والغاز، وهو ما جعلها ترمي بثقلها في المعترك السوري، لكنها من جهة أخرى لا بدّ لها من تدقيق حساباتها جيداً، علماً بأن واشنطن في العام 2013 هي الأخرى ليست واشطن المتفرّدة بالقرار الدولي في أواخر الثمانينيات وانتهاء عهد الحرب الباردة.
وبقدر ما هناك تنافس حادا ، فهناك محاولة للتفاهم أيضاً، وخصوصاً بشأن سوريا إضافة إلى حلحلة الملف النووي الإيراني، لأن واشنطن وهي تعاني من استمرار الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة لا تريد استخدام آلتها العسكرية، ولا سيما قوّاتها البرية للتدخل، لما جلبه من نكسات على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري والأخلاقي، كما أن روسيا وإن تمسكت بمصالحها وحليفتها سوريا، فإنها في الوقت نفسه تبحث عن تفاهمات مع واشنطن تجنّبها السير في طريق سباق التسلح المرهق والحرب الباردة التي سبق وأن أطاحت بالاتحاد السوفييتي، الروس قادمون: نعم، ولكن وجودهم سيكون في إطار تفاهم كوني وإقليمي .