السرد والحقيقة

السرد والحقيقة
آخر تحديث:

محمد خضير

 سردُ الحقيقة أو حقيقةُ السرد نوعان روائيان، يرتبطان بأشكال زمنية توزع الحوادث على تواريخ متسلسلة، يومية أو سنوية، أو على أجزاء زمنية أصغر كالساعات والدقائق، واليوميات والمذكرات والرسائل، بما يوحي بوقوع متسلسل لحدث حقيقي في تاريخ محدد. ولقد لجأ إلى هذا التكنيك روائيون عرب وأجانب أشهرهم أندريه مالرو في (الوضع البشري).

لكني أشير هنا إلى روايتين راوحتُ في قراءتهما معاً، هما (مئويتي) لغونتر غراس، و)بناء الأيام) لأدواردو غاليانو. قيّد غراس مئوية القرن العشرين بشخصيات شهيرة أرّخت لحقائق الدولة الألمانية، بينما تجوّل غاليانو عبر بلدان مختلفة ليختار شخصياته التي تؤلف دورة حياة سنوية واحدة.

نصوص قصيرة تمر على القارئ مرَّ السحاب، لكن أيامها تمطر ذكريات ثقيلة الوقع على رأس القارئ المراقب في زاويته البعيدة. وفيما كان تقويم غراس المئوي باعثاً على الملل، منقّباً على مهل في التفاصيل الصغيرة، كان تقويم غاليانو يخلف وراءه قوس قزح شاعرياً، تخلّف عن إعصار اجتاح أبناء القرون، يوماً بعد يوم.بوساطة هاتين التجربتين السرديتين، صرنا نعلم ما تتطلبه كتابة رواية “الحقيقة” المحصورة في مكان واحد، أو المنتزعة من أمكنة مختلفة، بالاستناد إلى مئات الوثائق والتقاويم.

وخلافاً لأسلوب الرواية التاريخية المفتوحة على التخييل الغرائبي (روايات ماركيز مثلا( فإن رواية الحقيقة المروية بخطوط زمنية لا تتزحزح عن مسارها، تشدّ القارئ إلى “أنموذج” حقيقي يفترض أن يعقد معه صلة وجدانية وثيقة. وفيما اختلف الشكل الزمني، وأسلوب التاريخ؛ إذ أراد غراس سرد حقيقة فخمة مغلقة عن الأمة الألمانية، التي تفككت في منصف القرن، ثم التحمت ثانية في نهاية دورة تراجيدية؛ أراد غاليانو فتح أوردة الحقيقة السردية على تاريخ لم تُغلق نهاياته قط. فاليوم الأخير من العام 2008 مؤرخ بكتاب وضعه الطبيب سيرينوس سامونيكوس لشفاء الحمّى يحتوي على الكلمة العبرية القديمة “أبراكادابرا” التي تعني وما زالت تعني: “أرسلْ نارَك حتى النهاية”.يوزع أدواردو غاليانو الأيام على أبنائها، زمنها المؤرخ في يوم محدد، وما أكثر العظماء والمغامرين بينهم، وما أغزر الغرباء والمشعوذين والأباطرة، الذين سرقوا اهتمام غاليانو بهم.

رجال ونساء، روائيون وموسيقيون ورياضيون، سطع ذكرهم من خبايا الأيام المتناثرة في تسلسل اعتباطي. فليست كل شخصية مهمة في دورها وذاتها، بل وليس كل يوم داعماً لحقيقة وجود شخصية سواها لم يذكرها غاليانو في تقويمه الروائي.

تتجمع الحوادث بما يشبه الصدفة المؤرخة لإنتاج نص مترابط، تجميعي أو تفاعلي. قاد غاليانو “أبناء الأيام” كما يقود توزيعات صوتية انفرادية وجماعية في أوركسترا الحقيقة السردية. حين تبدو حكاية واحدٍ من هؤلاء المئويين خبراً اعتيادياً لا يثير الانتباه (مثل آلة موسيقية خافتة الصوت) تتحول على يد غاليانو إلى أنموذج مؤثر ومأثرة خالدة.

الكلمات الدارجة والأشعار المجهولة تتحول إلى وصايا وتعاليم، أسرار ليلية وأغان طقسية، جوقة موسيقية متآلفة الأصوات والألوان. ويسمح سرد غاليانو بأن يرفع شأن فرد مغمور ويساويه بسيرة شخصية مشهورة.

كما يُفرِغ الأمكنة التاريخية من عظمتها، أو يملأ غيرها بسر العظمة الشعرية، كل هذا في مقطع قصير لا يتجاوز عدة سطور، من تاريخ يوم ضائع بين الأيام. لكن غاليانو لا يتردد في الإقرار بعظمة شخصية مثل أنطون تشيخوف، أرخ لولادته في 29 كانون الثاني 1860 بسطرين فقط: “كتبَ كمَن لا يقول شيئاً، وقد قال كل شيء”.

ولعل غاليانو كان يؤرخ في وقت غير وقت تشيخوف لنفسه في هذا الرواية. لكن شخصاً غير معروف للجميع هو )أناوالبا يوبانكي) يذكره غاليانو مع من يبجلهم بأسلوبه التفخيمي، بتاريخ 31 كانون من العام 1908: “في الحياة كانوا ثلاثة: الجيتار والحصان وهو. أو أربعة إذا ما حسبنا الريح معهم”. ومن أجل تفخيم النص القصير، يختار لهذا النص عنواناً شعرياً “من رياح نحن”. وهو يعمق هذه المعادلات الهارمونية بين الحقيقة والسرد بأسلوب ساحر، رافعاً أبناء البحر الكاريبي والعالم حوله إلى مرتبة الشعر. ولن نعرف إذا ما كان غاليانو متنبئاً برواية القرن الجديد التي تلجأ على أسلوب التقطيع والتوليف بين نصوص قصيرة، وحبكات متوازية، وحوادث عشوائية، وشخصيات حقيقية. فقد صنع أنموذجاً رائداً لرواية المستقبل التي لن تستغني عن “الحقيقة” عندما تستخدم السرد لتخييلها وافتراض وجودها شعرياً.

 أن تؤلف كتاباً على أنموذج كتاب غاليانو، لا يتطلب التأليف منك إلا مسك تقويم لتاريخ العالم، أو تاريخ شخصية أو قضية في أي مكان منه، وتختار حادثة من حوادثه، ثم تنتقل إلى أخرى، وترتبها في شكل تجميعي/ عشوائي؛ لكن هذا التأليف السهل يستغرق منك عشرات السنين، بل مئات الأعوام، حتى تكلّ يداك ويضعف بصرك، أي حتى تتفتت روحك وتذبل من أجل سرد حقيقة بسيطة. هذا إذا أردنا التدليل على رأينا بنص مؤرخ في 4 أيلول، معنون “الوفاء بكلمة شرف”: “في العام 1970 كسب سلفادور ألليندي الانتخابات، وكُرّس رئيساً لتشيلي. وقال: سوف أؤمّم النحاس. وقال: أنا لن أخرج حياً من هنا. وقد وفى بكلمته”.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *