لاخوف من الحرية

لاخوف من الحرية
آخر تحديث:

عبد الزهرة زكي

يتبرّم نقادٌ وصحفيون وشعراء وكتّاب من تكاثر الذين يجربون حظوظهم في كتابة الشعر والقصة والرواية.وهذه حالة ليست جديدةً تماماً، في الأقل في مجال الشعر. فدائماً كان شبانٌ كثيرون يحاولون ويسعون لأن يكونوا شعراء، ويقابلهم دائماً أيضاً تبرّم وشكوى من هذا التدافع الحاصل في بوابة الشعر والجلبة التي تحدثها أقدام كثيرين واقفين وراغبين في دخول بيت الشعر.يمكن أن أتحدث بمعرفة وخبرة أوضح إذا ما ركّزتُ الحديث عما حصل في مطلع وانتصاف السبعينيات في العراق. آنذاك بدأت أولى محاولاتي للنشر والكتابة الجادة في الشعر، وقد ترافق هذا مع ظهور عشرات الأصوات التي كانت تشاركني هذه البداية، وهي بداية مقيّدة بعدد محدود جداً من فرص النشر ووسائله. يمكن القول: إنها كانت ظروفاً محبطة لمن يمكن أن يستعجل الظهور. وجه الإحباط يأتي مرةً من صعوبة الظفر بفرصة، ويمكن أن يأتي ثانية، بخلاف ذلك، من الحصول عليها بيسر وبداعٍ غير شعري مما يخلق وهماً يضلل شاعراً شاباً ويعميه ببريق زائف عن حقيقة قيمة ما يكتب.عشرات الأصوات الجديدة تخلق ضوضاءً وصخباً يصعب معهما الحفاظ على نظافة الأذنين والسمع. وكان هذا مما جعل النقد والصحافة متبرمَين ضجرَين من هذه الضوضاء المتوقعة من زحامٍ خلف أبواب مغلقة.
الإغلاق يقلّص مساحات الحرية التي يحلم بها شاعر مبتدئ ويتمناها من الخارج. كثير من الشعراء يأتون إلى الشعر حالمين بفراديس تنتظرهم وبمدن فاضلة تتقبلهم، لكن الأبواب المغلقة ستكون أولى الصدمة المحبطة حتماً. لحظتها يحتاج هذا الشاعر، حتى لا ينسحق، إلى أن يستعين بقدرته هو على التعرف على تنمية إمكانات خلق حريته الشخصية، وتبدأ الحرية الشخصية من لحظة ثقة بالذات وبالاستجارة فيها.مع حرية المرء مع نفسه لن تقوى أية قوة على منع الذات من النمو الطبيعي والعيش بسلام. لكن هذا لا يمكن أن يتاح للجميع.هكذا تندحر الكثير من المواهب التي تُحسن الثقة بعالم لا يتهيأ له دائماً أن يكون حَسن الطوية وصبوراً على ما لا يعرف من قيمة الآخرين الجدد.مع عشرات الأصوات التي يختلط فيها الغث بالسمين وتنعدم معها وسائل الفرز، خصوصا في مجال كمجال الشعر، سيكون الظلم متوقعاً حتى وإن لم يكن مقصوداً. لقد كان هذا يتكرر وظل يتكرر دائما مع الهبّات الجماعية لمختلف الأجيال، لكن مع تطور الميديا المعاصرة فإن المشكلة ستكون مضاعفة مرات، كما يكون اختصار الحصول على فرص طيبة متوفراً مرات أكثر. 
في الأشهر الأخيرة اشتد الكلام ضد تزايد أعداد الذين يكتبون الرواية. ويرى النقد الموجّه إلى هؤلاء أنهم (غير مؤهلين) و(غير موهوبين)، وسماهم الناقد العراقي عبدالله ابراهيم في إحدى المناسبات بـ (غشماء السرد).التزايد في عدد مجربي الحظ بكتابة الرواية حقيقي وهو أمر متوقع؛ الكثير من الظروف أصبحت تشجّع كثيرين على أن يغامروا ويجرّبوا ويحاولوا.. هذا امتياز لهؤلاء، وليس منقصة فيهم، إنه امتياز من حيث هو تعبير عن افتتان بالرواية، وكل ما يُفتَن به المرء يسعى إلى تمثّله وانتاجه بقدر ما متاح له. ولا بأس في هذا حتى وإن كانت أصداء الجوائز حافزا له، وإلا ما هو تأثير الجوائز إن لم يكن زيادة مساحة القراءة وما يتبعها من تكاثر طموح محاولة الجتربة.وهذا أيضاً امتياز للرواية وتطورها في بلدان عالمنا العربي من حيث هو تعبير عن حضورها المتزايد في الحياة واجتذابها الجمهور إليها.
يمكن لـ (غشيم) السرد أن يكتب، لكن النقد، والقارئ العام أيضاً، ليسا ملزمين بالتعامل ولا بالانشغال بأية كتابة على أنها رواية ما لم تكن هي بالفعل مقنعة بكونها رواية.لو صادفنا بين العشرات ممن ينتجون الآن روايات، بهذا المستوى وذاك، ومن غير كتّابها المكرسين من يمنحنا رواية واحدة جيدة فهي مصادفة للعثور على جوهرة في مكان غير متوقع للعثور فيه على جواهر.لكن تردّد وخوف المفتونين بالرواية من تجريب حظوظهم قد يعطّل الكثير من الفرص المتوقعة لمصادفة مثل تلك الرواية. ربما تستطيع نوادٍ وجمعيات ومؤسسات أن تحفّز الناس على أن تكتب، وقد تستطيع أن تساعدهم بتدريبهم وتشجيعهم. في الكتابة لا نخسر شيئاً. 
سوء التقدير واختلاط الأوراق ليس نتاجاً لمجانية النشر والكتابة إنما هو تعبير عن فشل النقد في أن يكون حاسماً ومؤثراً كما هو تعبير عن هشاشة الثقافة التي لا تحمي نفسها. الحماية ليس بالمنع والشكوى ولكن بخلق تقاليد ترصّن الجدية ولا تقيّد الإرادة.شخصياً أشجع دائما كل من يمتلك أدنى مؤهلات الكتابة على أن يجرب كتابة الرواية. نصحت كثيرين بذلك.ما الخشية في ذلك؟
 ليست هناك شرطة حدود تحرس الحدود المفترضة لمملكة السرد. النقد وتقاليد الثقافة يمكنهما أن يحميا تلك الحدود لكن ليس بالمنع.ليست هناك قوة على الأرض تمنح جواز مرور لمن لا يستحق المرور بهذه المملكة وقبوله مواطنا فيها.مبدأ الفنون كلها أنها متاحة للإنسان إنتاجاً أو تلقياً. فلا بأس في أن يجرّب الجميع.
عبر التاريخ كان ملايين من العرب جربوا حظوظهم في الشعر لكن التاريخ لم يحفظ غير الجواهر الثمينة. لا أحسب أن عربياً لم يحاول، حتى ولو مع نفسه، في أن يكتب شعراً يوماً ما.وفي الغرب تطرح المطابع يومياً عشرات الروايات بمستويات وأنماط مختلفة ناهيك عما لا يجد طريقه للنشر.. لا أحد هناك من يصرّح بمنطق الوصاية على الرواية مطالباً بمنع هؤلاء الكتاب وأشباه الكتاب أو بتوقفهم عن الكتابة. الناشر يمكنه الامتناع عن النشر.واقعا هناك آلاف الروايات التي طبعت في الغرب وسواه ولا قيمة لها سواء من حيث فنيتها أو من حيث صمودها بالسوق.دائما، وفي الفنون كلها، تتلف الكثير من التجارب فلا يظل إلا ما هو جوهري.
في مثال السبعينيات الذي جئت إليه بهذا المقال، تمكن الإشارة إلى عدد مجلة الكلمة الذي أراد الاحتفاء بالشعراء الجدد لذلك العقد. في هذا العدد يمكن الآن ملاحظة كم من الأسماء التي تضمنها بقيت قادرة على الاستمرار في الشعراء. الكثيرون وجدوا فرصهم في مجالات أخرى للكتابة بينما بعضهم الآخر انفض تماما عن الكتابة وعنائها وتبعاتها. لكن كم من شعراء ذلك العقد رسخوا واستمروا من دون أن ينالوا فرصة التضييف ببيت (الكلمة)، ومن دون أن يثلم هذا شيئا في أنفسهم وتجاربهم وسعيهم.الحاجة إلى الرواية هي أكبر من الحاجة إلى الشعر.الشعر شأن شخصي بأكثر مما يجب بينما الحاجة إلى الرواية باتت حاجة اجتماعية وثقافية.. وما زالت حتى الآن تتطلب الكثير من الجهود.لا ينبغي الانشغال بالشكوى والسعي لمحاصرة من نراهم غير موهوبين. في الأخير هم سيتوقفون.هناك؛ كبار الروائيين يكتبون.. النقاد الجادون يؤشّرون ويستنتجون ويكتشفون، الصحافة الجادة تتابع.. لا أحد بين هؤلاء يسمح لنفسه بدور الوصي الحارس الأمين.إنها الحرية.حرية الجميع في أن يجربوا إمكاناتهم، وبالتالي فلا أحد يستمر إلى ما لانهاية بهدر وقته وجهده وماله وفرصه في الحياة والعيش حين يكتشف أنه غير مؤهل وغير قادر على التنافس. هو سينفضّ عن هذا المجال ويبحث عن قدراته في مجال آخر يناسبه، لكن بحريته وليس بقمع الآخرين المسبق لإرادته في تجربة نفسه. الذي يستمر بوهمه هو من يخسر، فالفن يستمر بمشيئة نصوصه الجيدة ولا يتعثر بأوهام الموهومين.لا أحد يستحوذ على فرصة أحد سواه.لا خوفَ من الحرية.. الخوف كل الخوف من تقييد الحريات، من عرقلتنا لهذه الحرية، ومن خوفنا من البحث عن ذواتنا واكتشاف كوامنها.الحرية تفتح الف نافذة حين تُغلق لها نافذة واحدة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *