نعم يا صديقي… كن فاسداَ !!!

نعم يا صديقي… كن فاسداَ !!!
آخر تحديث:

بقلم:ميثاق بيات الضيفي

“الفساد انحراف مرضي… وفايروس ابدي… محطم للحقوق ومزهقا للآمال… وقاتلا علني !!!”

لن نكذب ان قولنا ان مصادر النفوذ الرئيسة في كل مجتمع، هي المال والسلطة ومن ارادهما فعليه ان يكون فاسدا، وهما أشكال معممة للتفاعلات والاتصالات تكون بحاجة إلى إضفاء طابع مؤسسي محدد، اذ لا يمكن للمال أن يلعب دور أداة اتصال مشتركة إلا بموجب حقوق ملكية محددة بوضوح وقواعد مكتوبة حول ما يمكن شراؤه ولا ما يمكن شراؤه مقابل المال، ويتميز المجتمع الحديث مع توفر النظام النقدي المتطور بحقيقة أنه من المستحيل شراء كل شيء مقابل المال، وازاء ذلك يتردد زعما ان من الاشياء التي لا تشترى هي كل من المناصب السياسية ، أصوات النواب ، آراء الخبراء ، الإعفاء من قضاء الأحكام ومن الخدمة العسكرية!! وله الحمد ففي عالمنا العربي شمس الفساد لا تغيب! وفسادنا هو شكل من أشكال التأثير الذي يمكن استخدامه عند تقاطع النظم الفرعية المختلفة مما يدل بوضوح على القوة والمال، فيرتبط استخدام القوة السياسية بالحاجة إلى شراء الأصوات أو استخدام الأموال لاتخاذ القرارات السياسية بما يحقق المصالح الخاصة لجماعات معينة، وبهذا يصبح من المستحيل الثقة في النظم السياسية العربية.

الفساد لماذا لا يمثل مشكلة أخلاقية واقتصادية وسياسية فحسب، انما مشكلة لنظرة المجتمع وروحه أيضًا وبتعبير أدق يمثل الفساد مشكلة لنظرية المجتمع الحديث، وفي هذا الصدد فإن السؤال الملح يكون.. ما الذي يمكن أن نفهمه حول أفكارنا عن المجتمع الحديث عندما نلاحظ انتشار الفساد فيه وتعاظم المناقشات البالية والعامة حول الفساد ؟ هنا يجب النظر إلى الفساد كممارسة للتأثير الاجتماعي، والفساد كموضوع للتواصل في المجتمع وفي علاقتهما مع بعضهما البعض، وبدون وجود عنصر اتصال رمزي ، لا يمكننا تفسير السبب الذي يؤديه الفساد في إحدى الحالات إلى غضب الرأي العام، وفي الحالة الثانية إلى اللامبالاة والانفصال عن السياسة، في الحالة الثالثة إنه يعطي قوة دفع لتغييرات سياسية شاملة. وهنا سأقدم فهماً مبسّطًا لفساد المجتمع الحديث، وأن الفساد في أشكاله الكلاسيكية والحديثة لا يمكن فهمه والتحقيق فيه إلا بالاقتران مع الهياكل الحديثة للمجتمع واتصالاته حول الفساد بمعنى التواصل حول نوع من المشاكل مما يجعلها موضوعًا للمراقبة بغض النظر عن مدى ما يبدو تافهاً، وإن النتائج التحليلية لهذا البيان ليست تافهة لذلك يجب علينا أولاً أن نسأل لماذا، بسبب الحداثة أو على الرغم من الحداثة، لا ينحسر الفساد في الماضي، ولكنه على العكس من ذلك فلا يزال موجودًا وبقوة.

تتناقض الأمثلة المرصودة للفساد في المجتمع الحديث، فالعلاقات الاجتماعية التي عاشت منذ فترة طويلة وبقيت في الماضي قد دخلت وانسابت بطريقها مرة أخرى إلى بطون المجتمع الحديث، في حين تتناقض هي نفسها وآليات عملها مع جوهر هذا المجتمع، وفي سياق تمثيل الذات تصف المجتمعات الحديثة نفسها بأنها تلك التي تتميز بالقيم العالمية والنشاط والفردية وعقلانية أعضائها التي ينمي الفرد فيها ومنها معتقدات في القدرة على اختيار أدواره الاجتماعية الخاصة في شرعية ووظائف المؤسسات العامة والتي من المتوقع أن يسترشد بها الفاعلون في أعمالهم بالتوازن بين المسؤوليات الاجتماعية والبحث عن المزايا الفردية، ولذلك تفضل المجتمعات الحديثة أن تصف نفسها بأنها متباينة وظيفيا ومستقطبة سياسيا عبر الادعاء بأنها تتمثل المنافسة الحرة والعادلة، وعمليات صنع القرار الديمقراطي، والمساواة القانونية، وحرية التعبير، والفرص المتساوية والقيم، والعدالة من خلال نظام المناعة في المجتمع، والذي تدعي انه يحميها من محاولات تركيز السلطة ومن والتسلسلات الهرمية غير الخاضعة للرقابة ومن تلبية المصالح الخاصة، غير ان الادعاءات شيء والوقائع شيئا اخر لان الفساد كظاهرة هيكلية هو عكس الحداثة، فبدلاً من المعايير العالمية لجودة العمل والخدمات، يتم استخدام روابط وولاء معينين، وبدلاً من الإدماج الاجتماعي القائم على المنافسة العادلة والاتفاقيات الضمنية والمحسوبية وبدلاً من الإيمان العالمي بالعدالة وتأثير القواعد العامة، تأتي علاقات الثقة والتآمر للمجموعات الصغيرة، التي تنشئ قوانينها الخاصة ولا تقلق بشأن الامتثال للمعايير القانونية الملزمة للجميع.

لا بد من التشكيك في الفرضية الواضحة التي مفادها أن الفساد هو ظاهرة خاصة مميزة لتطور المجتمعات وتحويلها من وجهة نظر البحث التجريبي والتاريخي، فتعتبر الهدايا والامتنانات في العلاقات الشخصية بمثابة انتهاكات اقتصادية وسياسية مميزة لبعض الثقافات، اذ يتجاهل عبرها وجود حدود مؤسسية وثقافية قابلية البيع وقابلية الشراء للمناصب والقرارات، تلك الروابط التي تنشأ عن المصالح الاقتصادية قصيرة الأجل للشركات والمؤسسات لتكون للرغبة في إثراء النخب المحلية. وهنا لا أريد أن أشكك في أن الفساد مستند على الثقة وقوة العلاقات والولاء وتبادل الهدايا المعينة، وكذلك إمكانية تبادل المشاركين فيه بالضغط على بعضهم البعض، والمصحوب بالمزيد من الصمت وتبادل الهدايا أو الخدمات. ولربما هذا هو المتسبب في طرح سؤالي : لماذا تبدو هذه الروابط منطقية في المجتمع الحديث وتؤتي ثمارها لمن يشاركون فيها، على الرغم من الظروف المتغيرة أو بسببها؟ تعيدنا إجابة هذا السؤال إلى فهم المجتمع الحديث باعتباره متمايزًا وظيفيًا، والذي يعتبر من استقلاليته استقلالية القرارات الاقتصادية أو السياسية أو القانونية أو المهنية عن الأصل الاجتماعي والانتماء الاجتماعي والاحتياجات المهنية للأشخاص الذين يقبلونها، بالإضافة إلى استبدال الطبقات بالتمييز الوظيفي، وعبر ذلك نلمس إن الضعف المزعوم للفساد يتناقض مع الواقع حيث يكون الفساد مستقرًا للغاية والمشاركون فيه كثيرون للغاية!! وعبر وجهة نظرنا هذه نجد ان الفساد يكون إما نتيجة لتخلف الحداثة أو انه أداة للحد من عدم اليقين وملتصق بمخاطر الجهات الفاعلة، وهذا يحرر النظريين والنظريات من الحاجة إلى دراسة المجتمع الحديث بشكل أكثر تفاضلاً ويمكن للمرء أن يعلن دائما أن العالم الجديد لم يخلق بعد بديلا لما يعطيه ويعنيه ويتسبب به الفساد، مما قد يدفع المرء للتساؤل ما إذا كان النهج النظري يعكس النموذج الحقيقي للمجتمع الحديث؟ للإجابة على ذلك فمن الضروري أولاً أن نقول إن الفساد كظاهرة مستقرة وفعالة وليس سمة من سمات ما يسمى بالمجتمعات النامية أو الانتقالية، فيشير عدد كبير أو أكثر من حالات الفساد البارزة في مجتمع حديث وعواقبها الاجتماعية إلى أنه في هذه الحالة لا يستحق تقسيم المجتمع، وهي إشارات إلى الخصائص الثقافية والعقليات المختلفة، وعلى الرغم من أنها تستند إلى الملاحظات التجريبية لكنها ليس لديها سوى القليل من الإمكانات التوضيحية لأنها تستند إلى حجج متكررة وتكثر في جوانب غير مستكشفة، وهذا يرجع إلى حقيقة أنه عند الإشارة إلى مفاهيم مثل “الثقافة” أو “العقلية” أو “طبقة المجتمع” ، عادة لا يكون من الممكن تحديد ما يتم استبعاده من هذه المفاهيم بوضوح عند شرح الفساد، اذ لا يوجد تفسير مقنع لسبب ظهوره في ثقافات وتقاليد ومجتمعات مختلفة المستويات، كما لا يستحق إنكار أن حساسية المجتمعات لحالات الفساد أو تبريرها بمثل هذه الحالات ترتبط باستخدام مدونة ثقافية خاصة بكل مجتمع. لذا فأن الفساد كظاهرة مهمة للمجتمع هو سمة من سمات المجتمعات أو المجتمعات غير المطورة في الانتقال إلى الحداثة، وهو ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا في إطار الثقافات والعقليات المختلفة. كما ويمكننا أن نفترض أن “الشخصية الفاسدة” هي صورة نمطية، تجعل شعبيتها ممكن الحفاظ على الهيكل الحالي والطمأنينة النفسية وفقًا لمبدأ حتى الهيكل المثالي لا يمكنه كبح الطاقة الإجرامية، بما في ذلك اكتشافها وتحديد هويتها، وإن الملاحظ حولها انها تلقي بظلال من الشك على إمكانية وفعالية المنع والسيطرة، وفي الواقع ليست هناك حاجة لإجراء تحليل نفسي عميق، فيكفي أن نتأمل بشكل معقول بما فيه الكفاية للتوصل إلى استنتاج مفاده أن الاستخدام غير المبدئي لقدرات النظام، وعدم التناسق والتعتيم، والوصول المتميز إلى المناصب والسلطات، واجتذاب الروابط الخاصة، هي دائمًا وفي كل مكان الدافع وراء الفساد للبحث عن فوائد غير قانونية يمكن أن تستمد من منصبه. لذا لا شك في أن الفساد يأتي أولاً بمزايا خاصة للأفراد، وثانياً يتوافق مع نموذج تبادل متبادل المنفعة مع اختلاف أن هذه الصفقة تتم على حساب أطراف ثالثة والجهات الفاعلة إما تنطلق من حقيقة أن الأطراف الثالثة لا تعرف عن معاملاتها أو تتخذ خطوات فعالة لإخفاء المعاملة، وكلما نجحوا بشكل أفضل كان بإمكانهم استخدام عدم تناسق أنظمة المعلومات لإخفاء الصفقة، أو كان بإمكانهم استخدام العتامة الحالية لزيادة عدم التناسق، وفي ظل هكذا ظروف يكون التلاعب ممكنًا. ومع ذلك فلا يزال هناك جدال حول ما إذا كانت الدولة القوية مهيأة للفساد، لأنها قوية، أو ربما يكمن ضعفها بالتحديد في حقيقة أنها غير قادرة على توليد الإيمان بشرعية مؤسساتها وفعاليتها وبالتالي تصبح فريسة للاقتصاد والعسكرية والنخب الاجتماعية، وعادة ما يكون للاستراتيجيات الاقتصادية لشرح الفساد فهم محدود للغاية لمنطق السلطة، وفي إضفاء الطابع المؤسسي على اللوائح والخطابات الحديثة المتعلقة بتلك القضايا.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *