أمين معلوف وروايته «ليون الإفريقي»

أمين معلوف وروايته «ليون الإفريقي»
آخر تحديث:
بغداد/شبكة أخبار العراق- أنا ابن السبيل، وطني هو القافلة، وحياتي هي أقل الرحلات توقعًا». أمين معلوف/ ليون الإفريقي.أساس الأدب العظيم – وفقًا للوكاش- هو العالم المشترك للناس, أو هو الكوني الذي تُحترم فيه أمجاد الإنسانية جمعاء ويحافَظ عليها بعيدًا عن تناحر يدمرها ويمحوها.أما أن يكون الأدب كونيًا فأمر يقتضي من الأديب أن يمتلك ما من شأنه تحفيز البشر على الاطلاع على كل مكوناتهم، واعتبار كل هوية منهم هي محصلة لانتماءات عديدة بدلاً من حصرها في انتماء واحد يجعل الواحد منهم أداة لقهر الآخر واستعباده.وهي فكرة تقود الفرد باتجاه التفكير بأن ما يحدث له لا يمكن أن يجري بمنأى عن الجماعة؛ فالذات منتج اجتماعي نسبي التكوين.ولا يعدو البشر أن يكونوا كائنات منسوجة من خيوط من كافة الألوان؛ فمن العبث الشديد أن نعتقد بوجود هوية ثابتة، فالهوية بلا شك مؤلفة من انتماءات عديدة، ولا بد من التأكيد أننا نعيش ككل.جميل أن تحتفي الآداب بروح كونية رافضة لنزعات التناحر والتدمير، وقادرة في الوقت ذاته على تخليص البشر من مواقف متحيزة متعصبة. أمر ولا شك يدخل في صميم الدفاع عن إنسانية تتوافق ورغبة لإحياء ثقافة كونية تقوم على رفض أي شكل من أشكال القمع التي ترتكز على اختلاف في الجنس والهوية أو الانتماء.وذاك ما وجدته متحققًا أثناء قراءتي سيرة الروائي والشاعر الأميركي ذي الأصل البولندي بول أوستر «حكاية الشتاء» التي يروي فيها حكاية شتائه في عيد ميلاده الرابع والستين بطريقة مؤثرة.وكنت في قراءتي قد توقفت عند سؤال يخاطب فيه نفسه قائلاً: «تود أن تعرف من تكون؟» ليكون فحوى الرد منصبًا حول صعوبة التعرف على هوية حقيقية واحدة. إذ ما أصعب أن يعرف أحدهم هويته قبل وصوله إلى والديه اللذين أنجباه. فما تيسر له مجرد معلومات ضئيلة عن جدين كبيرين للأم وما قبل ذلك هو بياض. بل إن ملامح جسدية مختلطة ببشرة ضاربة إلى السمرة وشعر متموج وعينين زرقاوين رماديتين، كان من شأنها – كما يحدثنا – جلب الحيرة له ولغيره في تحديد هوية إثنية خاصة به، بل وإضفاء أكثر من جنسية مختلفة عليه؛ إيطالي, يوناني، لبناني، مصري، وحتى باكستاني.يصل بول أوستر إلى فرضية اقتنع بها منذ عهد طويل، وترى أنه مركب حضارات متصارعة مختلفة ومتنوعة في جسد واحد من جميع الأجناس المنتمية إلى نصف الكرة الشرقي؛ جزء منه إفريقي وآخر عربي وآخر هندي وآخر صيني، ليكون خليطًا من حضارات متصارعة مختلفة ومتنوعة في جسد واحد. وهو افتراض يمثل موقفًا أخلاقيًا أو طريقة ما لشطب مسألة العرق التي هي مسألة مزيفة. مسألة لا تجلب إلا الخزي والعار على كل من يسأل عنها.والجميل في طرح هذا الروائي أنه يخرج بقرار أن وصولاً إلى حالة سوية من التفكير يقتضي تمثلاً حقيقيًا للجميع, فسؤال من تكون؟ كان ولا يزال يحمل لغزًا كبيرًا, ليبقى الأمل معدومًا من إمكان إيجاد حل لهذا اللغز في يوم من الأيام.هو الأدب إذن في رسالة خاصة تسخر نظامًا للبقاء في مواجهة عملية محو مستمرة. وهو الأدب حين يطرح ثقافة تساعد على التعامل بحكمة مع كل أشكال التنوع البشري, وتدعو إلى عيش مشترك متناغم بعيد عن العنف. ليكون قريبًا من صحوة إنقاذية تقلل من مشاعر الكراهية المنتشرة.وهو ما أعلنته رواية معلوف «ليون الإفريقي». وفيها شهدنا لعبة ذهنية تقوم على تصور طفل رضيع فصل عن محيطه منذ ولادته, ونقل إلى بيئة مختلفة عن بيئته الأصلية. ليتساءل بعد ذلك: ما هي الهوية التي يكتسبها الطفل؟ ما هي المعارك التي يتوجب عليه خوضها؟ يفترض فيه أنه لن يتذكر دينه الأصلي ولا أمته ولا لغته, وقد يقاتل بعزم وضراوة أولئك الذين كان من المفترض أن يكونوا أهله.لنجد بعد ذلك أن ما يحدد انتماء شخص إلى إحدى الجماعات هو تأثير الغير بصورة أساسية؛ فالإنسان يكتسب هويته خطوة خطوة. بما يؤكد ما يراه معلوف في كتاباته الفكرية من أن الهوية مؤلفة من انتماءات متعددة، وهي ليست سليلة من الانتماءات المستقلة، وليست رقعًا بل رسمًا على نسج مشدود.وهو ما يؤكده بطله محمد بن الوزان حين خاطب ابنه قائلاً: «ولسوف تسمع من فمي العربية والتركية.. لأن جميع اللغات وكل الصلوات ملك يدي ولكنني لا أنتمي إلى أي منها. فأنا له وللتراب، وإليهما راجع في يوم قريب».»لقد كنت في رومة ابن الإفريقي, وسوف تكون في إفريقية ابن الرومي، وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور فمسلمًا كنت أو يهوديًا أو نصرانيًا، عليهم أن يرتضوك كما أنت أو يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس، فقل لنفسك أرض الله واسعة, وحية هي يداه وقلبه ولا تتردد في الابتعاد إلى ما وراء البحار، إلى ما وراء جميغ التخوم والأوطان والمعتقدات». 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *