إسلاميو السلطة (85) إستراتيجية التردد عند الدكتور العبادي

إسلاميو السلطة (85) إستراتيجية التردد عند الدكتور العبادي
آخر تحديث:

 

 سليم الحسني

بعد تكليفه بتشكيل الحكومة، حاول الدكتور حيدر العبادي اظهار بعض القوة أمام شركائه السياسيين، فأشار الى انه سيتخلى عن التكليف إذا لم يستطع تشكيل حكومة كفاءات، وعزز موقفه بأنه يلتزم بتوجيهات المرجعية العليا، وكانت تلك اول مرة يسمعها المواطن العراقي من شخص في طريقه الى رئاسة الوزراء. وقد حظي تصريحه باهتمام وسائل الإعلام العراقية والدولية، وكان لها وقع مؤثر في الشارع العراقي الذي شعر بقدر كبير من الارتياح لبروز رجل دولة بعقلية أكاديمية وبحس وطني يتقدم المشهد السياسي، ولديه التوجه في تصحيح المسار الخاطئ للعملية السياسية.

لكن العبادي لم يستطع أن يمضي مع إشارة التهديد، ففضل التعامل مع الواقع المحيط به، واستمر في خوض المفاوضات ليتوصل الى تشكيلة وزارية ضعيفة مترهلة يعوزها بعض الوزراء منهم وزير الدفاع ووزير الداخلية.

في التاسع من أيلول 2014، عرض العبادي برنامجه الحكومي على البرلمان، ثم أعلن اسماء وزرائه لنيل الثقة، وهذه المرة واجه البرلمان بعبارة حاسمة بأنه سيقدم بعد اسبوع واحد فقط، مرشحيه لوزارتي الدفاع والداخلية، في حال عدم اتفاق الكتل، لكنه لم يلتزم بتعهده، فلم يُعين الوزيرين إلا بعد أكثر من شهر.

وتحدث العبادي بكلمات قاطعة، أنه سيرفض التعيينات بالوكالة، لكنه عاد فاستخدم هذا تعيين الوكالة في مواقع مهمة في الدولة.

لقد كان أمام العبادي فرصة نادرة ليؤثر على المنحى العام في سلوك الكتل السياسية، فقد كان بمقدوره أن يكون أكثر إنسجاماً مع نفسه ومدرسته الفكرية، وهو القيادي في حركة إسلامية ذات جذور راسخة، لا ترى في الحكم إلا وسيلة من أجل غاية أكبر هي خدمة الانسان والمجتمع وتحقيق العدالة. فقد كان بمقدوره أن ينذر الكتل السياسية بأنه سينسحب من المهمة فيما لو استمروا بمطالبهم الصعبة وشروطهم الضاغطة، وأنه لن يكون شريكاً في عملية تفضّل المنتمي المشكوك بنزاهته وكفاءته على غيره المعروف بالنزاهة والكفاءة، لأنه يريد بناء دولة وتصحيح واقع منهار، لا أن يكون امتداداً لحالة خاطئة.

لقد إقترب الدكتور العبادي من منصة الزعامة الوطنية، وهو الموقع الشاغر في العراق، رغم حاجة البلد اليه، ورغم الفرص التي جاءت بنفسها زاحفة الى بعض الشخصيات، لكنهم أضاعوها، فقد فضلوا الرئاسة الحكومية على الزعامة الوطنية، وفرحوا بكرسي مؤقت رخو القوائم، على مكانة قيادية مفتوحة الزمن، راسخة الأساس بتأييد الشعب الثابت وليس بمواقف الكتل السياسية المتقلبة.

قد يبدو هذا الرأي مثالياً بعيداً عن الواقع، وقد يرده البعض ببساطة أن الكتل السياسية لن تتراجع عن مواقفها وبذلك يفقد العبادي منصب رئاسة الوزراء. لكن التجربة أثبت خلاف ذلك، فعندما أعلن العبادي حزمته الإصلاحية الأولى، هبّ الشعب العراقي يقف داعماً له، مما اضطر البرلمان وقادة الكتل الى مماشاته وتأييده وتفويضه بتنفيذ اصلاحاته.

فإذا لم يكن العبادي على دراية بهذه الحقيقة، فان معنى ذلك، أنه لا يعرف تقدير الأمور وقراءة الواقع، فكيف يسمح لنفسه ان يشغل منصباً بهذه الحساسية وفي هذه الظروف؟.

يضاف الى ذلك، أن العبادي جاء بدعم المرجعية العليا وبتأييد هائل من الداخل والخارج، مما يجعله قادراً على فرض شروطه لتشكيل الحكومة، خصوصاً إذا جاءت على أساس التخصص والكفاءة والنزاهة، وأشرك فيها مختلف المكونات العراقية، فهناك فرق بين القبول بالمحاصصة، وبين إشراك الكفاءات الشيعية والسنية والكردية. ولو فعل ذلك فأنه سيقطع الطريق ليس على اطراف العملية السياسية وحدها، بل أنه سيضع الولايات المتحدة أمام مسؤوليتها في دعم العراق عسكريا، بعد أن حقق التشكيلة الحكومية الجامعة للمكونات العراقية، وتجاوز الخطأ الأكبر في العملية السياسية وهو المحاصصة.

إن التأمل في الطريقة التي سار عليها العبادي، ومن خلال مراجعة مسار حياته الحزبية، أستطيع أن أعود للتأكيد بأنه شخصية مترددة تبتعد عن نقاط القوة، وتلجأ الى زوايا الضعف. وأضيف هنا نقطة أخرى، وهي أن التردد عند العبادي يتحول الى استراتيجية معتمدة من قبله، بمعنى أنه اكتشف في عمله الحزبي والسياسي، أن التردد يضمن له القدر الأكبر من المكاسب الذاتية، وأن الضعف يحميه من منافسة المنافسين، ويحول دون خلق الأعداء، وهذا ما يريده تحديداً.

إن العبادي هنا يعتمد استراتيجية التردد، ويتمسك بها، من خلال التنقل المستمر على نقاط محدودة تضيع فيها البداية والنهاية، وهو بهذه الحركة يستطيع أن يكسب عامل الوقت الذي يراهن عليه من أجل الوصول الى آخر يوم من سنواته الأربع.

في أجواء التنافس الحاد والتصارع السياسي على المناصب، يتداول أصحاب القرار فكرة مفادها (القوة تكمن في الأضعف) بمعنى أن المرشح لشغل منصب مهم، يجب أن يكون ضعيفاً حتى لا يُثير قلق الآخرين. وأغلب الظن أن العبادي استخدم هذا المنهج ليُقنع الآخرين بانه الضعيف الذين يبحثون عليه، ولن يجدوا أضعف منه، لكي ينافسه على منصبه.

بهذه الاستراتيجية قطع العبادي مسيرته الحزبية والعملية، وطوى السنوات وهو آمن في زاويته المحصنة بالتردد والضعف، فكان يقع الخيار عليه حين يحتدم الجدل بين المتنافسين.

ووفق هذه الرؤية فان الإصلاحات التي أعلن عنها، كانت حركة مرواغة ضمن استراتيجية التردد، فاذا رفضتها الأطراف السياسية، فانه سيكون معذوراً، واذا وافقت عليها، فأنه سيضرب حزمته الإصلاحية بالتردد، ثم يطرح واحدة جديدة، ويعيد الكرة مع حزمة ثالثة. بهذه الاستراتيجية أكمل العبادي سنته الأولى وتوغل في الثانية بعدة أشهر، وسيستمر على ذلك طالما أنه نجح فيها حتى الآن.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *