البدء بأكذوبة والانتهاء بخديعة

البدء بأكذوبة والانتهاء بخديعة
آخر تحديث:

بقلم:علي علي

يريك من طرف اللسان حلاوة

ويروغ منك كما يروغ الثعلب

سجل لنا التأريخ في صفحاته مواعظ ونصائح وشواهد كثيرة، ناء بها سِفره وازدحم في نقلها المؤرخون والكتاب، لتصل إلينا بتحصيل حاصل تجربة جاهزة للتطبيق أو التمثيل أو الاستشهاد، وفي الأحوال كلها هي فائدة تغنينا عن البدء من الصفر في قدرة الحكم على شخص أو حالة أو ظرف نمر به.

“عرقوب” رجل يملك أطيانا وبساتين نخل مترامية الأطراف، وكان مشهورا بالمماطلة والتسويف بالمواعيد، أتاه أخ له يوما يسأله حاجة، فقال له عرقوب‏:‏ إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت أتاه، فقال‏:‏ دعها حتى تصير بلحا، فلما أبلحت قال‏:‏ دعها حتى تصير زهوًا، فلما زهت قال:‏ دعها حتى تصير رُطبا، فلما أرطبت قال‏:‏ دعها حتى تصير تمرا، فلما أتمرت عمد إليها عرقوب ليلا فقطعها ولم يعط أخاه من ثمرها شيئا، فصار مثلا في الخُلْف يُستشهد به في إخلاف المواعيد، حتى قال شاعر:

وعدتَ وكان الخُلف منك سجية

مواعيد عرقوب أخاه بيثرب

وقد ذكره كعب بن زهير في أحد أبيات قصيدته (بانت سعاد) حيث قال:

ولا تمسك بالعهد الذي زعمتْ

إلا كما تمسك الماءَ الغرابيلُ

فلا يغرنّك ما منّت وما وعدت

إن الأماني والأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا

وما مواعيدها إلا الأباطيل

وقال ثالث:

أمنجزٌ أنتمُ وعدًا وثقتُ به

أم اقتفيتم جميعا نهجَ عرقوب

من يتابع تصريحات ساسة العراق ومسؤوليه في حلهم وترحالهم، في غدوهم ورواحهم، في حربهم وسلمهم، قبل الانتخابات وبعدها، خلال تحالفاتهم وعقبها، تغريه للوهلة الأولى المصطلحات الشفافة التي يتفوهون بها، والكلمات الرقيقة التي يتشدقون بأعذبها وأكثرها سلاسة وسحرا، حتى يكاد يرى البهرج الفتان والضياء الساطع والأمل البراق بين أسطر تلك التصريحات، الرنانة في مفرداتها والطنانة في مواعيدها، غير أنه سرعان ما يكتشف انها كانت كلاما دعائيا، وإعلانا مدفوع الثمن باهظا، من جيب المواطن وحقوقه وثروات بلده.

ومن تطلع للتصريحات الرسمية التي تصدر من مؤسسات الدولة ووزاراتها، تلوح له بشائر الأمل في الأفق القريب، ويرى ان الفرج بات أدنى من قاب قوسين للعراقيين، الذين طال انتظارهم له، ولطالما رددوا بحسرة ممزوجة بأمل وألم، بيتي الشعر:

إذا النائبات بلغنَ المدى

وكادت لهن تذوب المهج

وحل البلاء وبان العزاء

فعند التناهي يكون الفرج

ذاك ان الخلافات التي يختلقها ساستنا بتفنن، والاختلافات التي يتبادلونها بدهاء متقن، أضحت منذ اعتلوا سدة الحكم، ككرة التنس أو الركبي أو المنضدة، يلهون بها ويتمتعون بمزاولتها وقضاء أوقاتهم معها في ملاعب شتى، فتارة في الملعب المسقف المدفأ شتاءً والمبرد صيفًا بأحدث وسائل الترفيه الذي يسمى ملعب (قبة البرلمان). وتارة أخرى يحلو لهم ان يصطافوا بشم نسائم شمال العراق، فيتجشمون عناء السفر لعقد الصفقات السياسية (على رواقة). أو يشدون الرحال إلى محافظة من محافظات الوسط والجنوب للسبب ذاته. أو قد يحلو لبعضهم زيارة دولة من دول الجوار او حتى عبر البحار، لتكون محطة يقيمون فيها لأسباب وتعليلات بقوالب جاهزة مسبقا منها؛ رأب صدع أو رتق جرح أو لم شمل أو شد أزر أو توحيد رؤى أو تقريب وجهات نظر أو تخاطب فِكـَر أو تلاقح أفكار أو تناكح همم أو تزاوج نوايا والناتج؛ طلاق بائن أفهم علنا مكتسب الدرجة القطعية.

وعندما تنتفي حاجتهم -الخاصة والأنانية طبعا- وتمتلئ رئاتهم من هواء شمال الوطن، أو جيوبهم من وسطه أو جنوبه، يشدّون الرحال الى محافظة مقدسة، بزعمهم ان الحل يكمن تحت قبب الأولياء وبمباركتهم، في حين كل أفعالهم تبدأ بمعصية، ويتخللها عقوق، وتنتهي حتما بسحت، وبذا فإن رحلة ساستنا المهنية، لاتعدو -بأحسن حالاتها- كونها رحلة مشبوهة تبدأ بأكذوبة وتنتهي بخديعة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *