الربيعي ورواية «أحمر حانة»

الربيعي ورواية  «أحمر حانة»
آخر تحديث:

أياد خضير

أعتمد الروائي حميد الربيعي في روايته (أحمر حانة ) على ركنين من أركان البنية ، التي تقوم عليها الرواية ، هما ، الزمن والمكان ، الزمن من حيث اتصاله بالحوادث والمكان أو الفضاء واتصاله بالشخوص .

الفضاء لا يعني المكان فحسب ، بل يعني أيضاً المجتمع ، فالشخصية لا تحيى في فراغ وهي كل الأحوال تمثل المجتمع الذي تنتمي أليه ، لهذا نجد أن الرواية قد تطرقت إلى مدينة ( خاراكس ) ، التي بناها الاسكندر المقدوني في القرن الثالث قبل الميلاد وكانت عاصمة مملكة ميسان من ناحية الحيوات وحركة الشخوص التي بنت التاريخ .

عرف الناقد الفرنسي جيرار جنيت في ( خطاب الحكاية ) الاسترجاع الخارجي : هو الذي يذكر فيه الراوي حوادث وقعت قبل بدء القصة ، والاسترجاع الداخلي وهو أن يذكر الراوي حوادث وقعت في الماضي ، لكنها من حيث الترتيب جرت بعيد تحديد بدء الرواية ) *1

( الاسكندر المقدوني فعلاً جاب تلك الديار ، لقد أمتلك أركان الدنيا الأربعة وانهزمت أمامه الجيوش ، لقد وطئت قدمه أرضنا منتصراً على الفرس ، قبل أن تكون « خاراكس» . استراح هناك ، عند حافات المياه الجارية ، حط رحاله ، رمى درعه وسيفه وخلع صحيفتي المعدن عن وجهه واتكأ على خوذته ) ص46

الرواية تسرد عن طريق راوٍ عليم وهو الذي له الدراية الكاملة بأحداثها ، بحيث يبدو كشخص من ذلك الزمان ولديه معرفه بالمكان والعادات والحوادث وأنماط حياة الأشخاص وعلاقاتهم مع البعض ، يكسب ثقة القارئ بما يروي له ويُسرد عليه ، طريقة السرد هذه من أكثر الوسائل استعدادا بتوصيل الإحساس الذي ينقله السارد درامياً من خلال شخصية ما في الرواية ، مما يؤدي إلى ايلاء الأهمية لوجهة النظر التي يتبناها ، فقد تحدث الراوي عن حرب الخليج الأولى التي حدثت في أيلول 1980ــ أب 1988 مع إيران .

( مصفحات الجيش في الأيام الأولى لحرب الأعوام الثمانية تجنبت المرور على هذه الأراضي ، كان يقال أن لهاثاً من باطن الأرض ينبعث ، وقيل أن قوة جذب تخسف بمن يمر بها ، لكن الآليات العسكرية التي حفرت الخنادق في أديمها ، لم تجد من الثغاء غير أرض حارقة ، في بطنها دود أسود ، رشوا الزيت وأحرقوا الدود والباطن .) ص56

عن أهمية المكان في الرواية ، تقول الناقدة المصرية ( سيزا قاسم ) :ــ أذا كان الزمن في الرواية مختلفاً عن زمن الساعة فأن المكان فيها هو الآخر مختلف عن المكان الطبيعي الذي تحدده الجغرافية ، أو ما في الطبيعة من تضاريس ، فهو مكان تخيلي، يتم إيجاده بواسطة الكلمات وما يتم إيجاده بواسطة الكلمات يضفي على السرد وعلى الحوادث وعلى الشخوص الطابع الحسي وعلى الزمن طابع الصيرورة .

في الرواية نجد حديثا عن حرب الخليج الثانية ، غزو العراق للكويت والحصار الاقتصادي ، للفترة 2/8/1990ــ 1991 .

( من سوء الطالع أن لا تجد مكاناً بحافلة متجهه إلى العاصمة ، مئات الجنود العائدين من الحرب الثانية يتطافرون خلف السيارات ، مثل كور زنابير يلتئمون ثم ينطلقون صوب أي حافلة تدخل المآرب العام .) ص29

حيث قادت تلك الحرب إلى حصار قاسٍ ، لهذا عمت الفوضى البلاد ، نهب وسلب ، جوع ظالم .

الروائي حميد الربيعي ينقلنا من جانب الكرخ إلى الرصافة مبتدءا بالسوق الكبير :

(سوق الجيف كبير ، يحاذي النهر من أول الجسر ويمتد إلى عمق المدينة ، من الشرق يجاور شارع الرشيد ، لكنه يخترقه بعدة مواضع ، يتواصل مع أسواق أخرى أشهرها ( الشورجة ) وأقربها سوق ( حنون ) ، ذاك السوق الذي غزاه الرعاع في حادثة الفرهود الشهيرة قبل سبعة عقود ) ص94

الراوي يتنقل بين أزقة بغداد وجاراتها وأسواقها ليطلعنا على خراب المحلات وسرقة البيوت ، خراب تام في كل مفاصل الحياة ، في حي ( الجعيفر ) كما محلة الشيخ معروف تربي الديكة للسباق في لعبة المصارعة للفخر أو للفوز ، والرهان على هذه اللعبة عادة قديمة ورثوها من آبائهم وأجدادهم ، لكن لكون الجوع كافر قاموا بذبح ما يملكون من الديكة، هذه المشاهد صاغها الروائي بمهارة لدرجة من الإتقان:

( بعض البيوت تربي الدجاج من جانب الاحتياط ، القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود كما يقال ، لم تحدث المجاعة بعد بشكل مرعب ، حتى تظن الناس بتلك الليلة ذبحت الديكة لغرض سد الرمق ) ص72

يفرق الناقد المغربي سعيد يقطين اعتمادا على جان ريكاردو بين زمن القصة وهو الذي يستغرقه وقوع الحوادث المحلية ، والزمن السردي ، فزمن القصة مضى ، وأنقضي ، في حين أن زمن الرواية السردي لم ينقض ، إنما هو حاضر بالنسبة للقارئ وحتى بالنسبة للراوي )*2

تطرقت الرواية إلى حرب الخليج الثالثة واحتلال العراق عام 2003 ، حين هجم الحلفاء بطائراتهم التي دمرت البنية التحية ، الوصف المتقن للمكان يساعدنا على التقاط الصور والمشاهد التي نجح الروائي برسم ملامحها ، حيث جعل المتلقي يستجيب للرواية وأحداثها لان الصورة اكتملت في ذهنه ، تلك الصور الجريئة لمدينة تتعرض إلى النهب والتدمير ، التي جسدتها الرواية .

( أعيد تمثال أبي نواس إلى الشارع ، بعد ما انتهت الحرب الثالثة بسنوات في احتفال مهيب ، طرح أبو نواس أرضاً كجثة من البرونز المحروق ، كان مبتسماً فقد نجا من ( الفرهود ) ذاك النهب الذي رافق الحرب الأخيرة ) ص25

للدلالة على الفرهود تطرق الراوي إلى سرقة مصرف الزوية في وضح النهار بتلك الحادثة الشهيرة في تاريخ العراق الحديث . مدير المصرف أمرآة في عقدها الخامس ، دخل ثلاثة لصوص إلى البناية وثلاثة من السوقة وينتظرهم ثلاثة في سيارات حمل حديثة ، قام أشخاص بقطع الطريق وأحدثوا رعباً في المارة ، حالما أطلقوا أعيرة نارية في الهواء ، بعدها نقلوا الأموال في سياراتهم وهربوا .

( المرأة لم تقل شيئاً، عدا أنها أومأت باتجاه الغرفة ، دخل لصان ، الثالث وقف بباب الغرفة ، بعد برهة نادى على رفيقه ، الذي يتولى الحراسة : ــ هاتوا أكياس القنب ، قوالب صفر ، من وزن كيلو غرام ، أخرى ذات أوزان تتراوح خمسة أو أحد عشر كيلو ، عبئت بسرعة ) ص182

الرواية فيها الكثير من الأحداث ، الحروب الثلاثة ، الحصار ، هجرة الأرياف إلى المدن ، الفرهود والجوع وهي أدانه لمجمل سلبيات الواقع ، التي عانى منها العراقيون ، أستطاع الراوي ( حميد الربيعي )على أجادتها مستعينا بشخصيات من التاريخ ، مثل : أبن الأثير، الخطيب البغدادي و الجاحظ ، في وصف الشوارع وأزقة مدينة بغداد وأحيائها وحياة سكانها .

في الرواية كلام بالعامية وأغانٍ قديمة وأمثال شعبية ، أعطت جمالية للسرد ، الرواية رصينة لا يوجد فيها إسهاب أو ترهل .. غنية باللغة الشاعرية . الروائي حميد الربيعي يحمل ثقافة روائية عاليه ، هيئت له كتابة رواية ، تعد علامة مميزة في المشهد السردي ، رواية « أحمر حانة « تستحق القراءة .

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *