العراقيون.. شعب من ‘التوابين’ في معسكرات الأسر الإيرانية

العراقيون.. شعب من ‘التوابين’ في معسكرات الأسر الإيرانية
آخر تحديث:

 بقلم: حامد الكيلاني 

عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 كان بديهيا أن تكون أفغانستان في مقدمة من تستهدفهم الهجمات الأميركية، كرد فعل لاعتبارات الدولة العظمى في العالم، ولتسلسل الرواية الأفغانية منذ الاحتلال السوفيتي واقترابها من نهايات فصولها مع حركة طالبان ونشوء تنظيم القاعدة وأكثر من 65 ميليشيا تتنازع على البقاء والاستيلاء على المؤن والغذاء في ذلك البلد الممزق.

لكن لماذا كان العراق، في تلك اللحظة الفاصلة، ثمرة ناضجة للقطف من قبل الاحتلال الأميركي؟ وهذه ليست فكرة ضمن ما يعرف بتحدي المخيلة، إنما هي قراءة لفعاليات دولية جعلت من الغزو الأميركي ممكنا ومقبولا في جملة من حملات تشويه السمعة في تراتبية صنعت من العراق وقيادته العدو الأول للإنسانية وغدها. لذلك انهار العراق في ذاكرة العقلاء من العراقيين مع انهيار البرجين في نيويورك.

ما يساعد على اكتشاف نقطة التداعي المشتركة؛ استمرار الحصار الدولي وتفاقم آثاره على الشعب العراقي، وتطاول مهمة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل على واجباتها المكلفة بها تخصصا، إلى إذلال إرادة العراق الوطنية لدفعها إلى المواجهة والتصدي بما ينتج عنها من تشديد للعقوبات التي أدت في النهاية إلى مجموعة وقائع أضعفت البنى الإستراتيجية في توطئة للاحتلال بأقل الخسائر بين القوات المعتدية.

تبين بعد سنوات أن قرار غزو العراق اتخذ في تلك الليلة أو أثناء الصدمة الأميركية في 11 سبتمبر، رغم أن علاقة العراق بتنظيم القاعدة لا دليل عليها ودون معطيات في أجهزة الاستخبارات الأميركية. بعدها اعترف الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الابن بخطأ احتلال العراق استنادا على كذبة روجت لها الولايات المتحدة بوجود أسلحة الدمار الشامل.

أي أن أميركا اقتطعت جزءا من التاريخ لعرضه بما يحقق مصالحها أو هيمنتها، وهيأت لتنفيذه برامج ساهم العراق في تثبيتها وتأكيدها لأسباب تتعلق بمحيطه الإقليمي وبمخاوفه من مصير الصراع بينه وبين النظام الحاكم في إيران؛ وهو نظام متربص بالعراق لا يخفي رغبته في تكملة معاركه الدامية في حرب الثماني سنوات التي انتهت في أغسطس 1988 بموافقة الخميني على وقف إطلاق النار بمقولته الشهيرة عن تجرعه السم لاتخاذه قرار إنهاء الحرب.

تجرع الخميني للسم معناه أنه أذعنَ لهزيمة قواته بصنوفها وفصائلها؛ لكنها في ذات الوقت تصريح بحرب مفتوحة ضد العراق وتوجيه لاستغلال كل ثغرة متاحة لاحتلاله لأن الاحتلال ترياق لمفعول السم.

إنها وصية الخميني، وصية عقائدية حملها من بعده علي الخامنئي وقياداته الإيرانية وحرسه الثوري، بل إن عار الهزيمة الذي تجسد في السم تحول عند مقلديه إلى قوة انتقام وثأر منهجية، تساهم اليوم بتعميم دروسها على أرض العراق في تطبيقات الإبادة وتهديم المدن وترويع الآمنين.

تاريخ الشعب الإيراني العريق يكتبه منذ عام 1979 الولي الفقيه في إرهاب صادراته، حربا أو تجاوزا لعقدة هزيمة في حرب؛ تاريخ من أقوال المرشد في وجوب توبة العراقيين من حب وطنهم عندما قاتلوا ببسالة دفاعا عن حدودهم الشرقية وأوقفوا المد المتخلف الذي أراد اجتياح أرضهم، ومقابل ذلك دفعوا دماء قرابة مليون شاب بعمر الجندية.

لكن الخلاصة في الآلاف من العراقيين الذين وقعوا في الأسر خلال الحرب الإيرانية العراقية، وهم من كل المذاهب والأديان والقوميات والأعراف، أي أنهم أبناء العراق، لكن ماذا حصل لهم في معسكرات الأسر بفعل التهديد والخوف والقمع، والترغيب أيضا.

كيف ساعدت بعض القيادات الحالية الحاكمة في العراق في انتزاع ولاء مجموعات من الأسرى وتحويلهم إلى معسكرات تدريب للقتال ضد وطنهم أو لتعذيب إخوانهم الآخرين من الأسرى الذين لم يرضخوا لمعادلة مبادلة الولاء للوطن والهوية الإنسانية بالولاء للملالي وعقيدتهم.

ومن أجل ألا نخوض في تفاصيل قصص الأسرى المؤلمة، نستذكر فقط ظاهرة التوابين من الأسرى العراقيين وما تعنيه من محاولة تكفير كل من وقعوا في أسر القوات الإيرانية، ومعظمهم مقاتلون في الجيش العراقي من المتطوعين أو المكلفين، أو من جنود الاحتياط وهم الأكثرية لسوق مواليد متعددة سدا للنقص العددي في حالة الحرب.

التوابون في سياق التاريخ الإسلامي، جزء من اقتطاع النص المطلوب لغرض السياسة الإيرانية كما في التكالب على مفردة القدس واستخدامها المفرط لتنفيذ مشروعهم وتمدده. فالتوبة إليهم تعني العودة والتراجع والاستغفار عن ذنوب محاربة قوات النظام الإيراني في عدوانها على العراق لأنها قوات عقائدية تأتمر بأوامر الولي الفقيه.

لا بد من السؤال الآن عن أحوال الأسرى الذين رفضوا الانضمام إلى تلك القوات التي تشكلت من التوابين؟ مَن بقي منهم على قيد الحياة حتى ممن أطلق سراحهم بعد نهاية الحرب أو بعد نهايتها بسنوات؟ العراقيون أدرى بالعدد القليل المتبقي منهم، فمعظمهم غادر الحياة لصعوبة التعافي من العذابات الجسدية والنفسية في معسكرات الأسر.

لكن ذات السؤال عن مصير التوابين الذين انتظموا في الميليشيات ومنها منظمة بدر عددهم بلغ 15 ألفا من العراقيين، أي 15 ألف خائن للوطن، بعضهم استقر في إيران وآخرون غادروا إلى دول أخرى طلبا للجوء، وهؤلاء أرادوا النفاذ بجلدهم وإنقاذ حياتهم تجاوزا لمحنة المعسكرات. أما المقاتلون منهم والذين كانوا أكثر بطشا بالأسرى العراقيين من الإيرانيين أنفسهم فهم على سدة الحكم في العراق وبعضهم وزراء أو نواب أو مسؤولون وأصحاب قرار في مؤسسات الدولة.

الكارثة أنهم يتعاملون مع كل العراقيين كشعب ينبغي عليهم أن يكونوا من التوابين في معسكرات الأسر الإيرانية، أي أن عليهم أن يتوبوا عن جريمة الدفاع عن وطنهم في الحرب مع إيران ويدفعوا ثمن ذلك الصمود ويدفعوا كفارة عن سيئاتهم التي تسببت في تجرع وليهم وفقيههم ومرشدهم السم، لأن مرارته أوقفت الحرب وأحلت السلم بين البلدين المتحاربين.

لا غرابة بما جرى للعراقيين، فمن بدت عليه علامات التمرد أو الرفض أو فقط عدم القبول بمنهج التوابين على الطريقة الإيرانية مع الأسرى، تمت معاملته وفق إجراءات التدريب القديم إما بالقتل أو التهجير أو تدبير المكائد أو بالتشهير أو توغلا في شن العمليات الحربية لتحويل محلاتهم السكنية إلى مقابر جماعية وتحت رعاية وحماية القانون الدولي؛ أو في الإذلال والإهانة وتلك خارج اهتمامات المنظمات الدولية والإنسانية لأنها لا تخضع للإحصاءات والأرقام.

هناك من ارتضى تغييب وعيه ليستمر في الحفاظ على حياته تحت كل الظروف مستسلما لخديعة شركات المحاصصة الطائفية في برامجها الانتخابية التي تربط وجوده وبقاءه رهنا بعذابات أخيه في الوطن، أو بالأحرى أخيه في معسكرات الأسرى.

معضلة حاضر العراق في تجاوز الانقياد الأعمى لقوات معسكرات الأسر الإيرانية، والانتفاض على هؤلاء التوابين الذين يتحكمون بالعملية السياسية في العراق؛ والزاد في المحنة المئات والآلاف من الأبطال الذين قاوموا سجانيهم في معسكرات بروجند وبرندك وآراك وغيرها؛ وإلا فإن أجيالا من التوابين عن عراقيتهم سيتم تخريجهم في دورات الحكومات الإيرانية المتعاقبة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *