العراق بيئة غير صالحة لقيام دولة شيعية

العراق بيئة غير صالحة لقيام دولة شيعية
آخر تحديث:

بقلم: د. ماجد السامرائي 

أحاول في سطور هذه المقالة، افتراضاً وليس قناعة، تقمص شخصية المحاور الطائفي المقابل للطائفي الشيعي للوصول إلى استنتاجات فكرية وسياسية مهمة لتوضيح صورة الخلفية المذهبية لنظام الحكم الحالي في العراق، الذي أسسه ورعاه الاحتلال الأميركي، ثم تركه للنظام الإيراني يوجهه كما يشاء وفقاً لنظرية الولي الفقيه، التي لا ترتبط من قريب أو بعيد بالخط الشيعي العربي وحوزاته في النجف العراقية. لا نحتاج إلى عناء فكري وسياسي لفضح اللعبة الكبيرة، بعد أن وصلت هذه الأيام إلى مأزقها ودمرت شعب العراق بجميع أطيافه.

تم تعمّد الخلط والإبهام في هوية النظام السياسي الجديد، بعد إسقاط دولة العراق عام 2003، ما بين الديني المذهبي، على غرار نظام الخميني في إيران والمدني، رغم إدراك المخططين الأميركان ومعرفتهم ماذا يعني هذا الشكل المُدبّر من طائفية حصر قيادة الحكم بالمنتمين إلى الأحزاب والمنظمات والشخصيات الشيعية، كانوا يعتقدون بسذاجة سياسية أن إشراك الكرد معهم سيبعد فكرة حكم الشيعة للعراق.

كانت الخارطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط والخليج شديدة الوضوح أمام مرأى المخططين الأميركيين، بعد احتلال النظام العراقي للكويت عام 1990، كانوا يحلمون بسذاجة بقيادة العالم الأحادي من داخل عراق شيعي – أميركي، وهو بلد شبكته ومحيطه عربي – سني. تحوّل العرب السنة إلى إرهابيين بعد واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001، طبق جورج بوش الابن بسرعة مذهلة هذه المعادلة الظالمة على العرب السنة، وفرحت طهران بذلك، فقد عوّضتها واشنطن لهزيمتها أمام العراق والخليج العربي، وقدمت لها جميع التسهيلات اللازمة لاجتياح العراق المنظم والتوطن على أراضيه والتحكم بنظامه الجديد.

لهذا السبب المباشر ظهرت بعد أقل من سنتين من احتلال العراق مشكلات كثيرة في عدم تقبل الجسم العراقي مثل هذه الوصفة المريبة وتفصيلاتها لشكل النظام في العراق الجديد.

هؤلاء وغيرهم من قادة وأتباع الأحزاب الولائية المتناسلة بواجهات طائفية مذهبية تعتمد السلاح كساند لشعاراتها، لا يريدون الاعتراف بأن العراق ليس البيئة الصالحة لقيام “دولة شيعية” تحت أيّ من العناوين

البداية كانت الغموض المتعمد للدستور الذي أشرف على كتابته الأميركان، لجان صياغاته، الشيعة، كانوا من أتباع الولي الإيراني الفقيه، الذين عادوا من إيران إلى العراق حاملين في صدورهم وعقولهم المريضة محفزات الحقد والكراهية على العراق ودولته التقليدية التي وصفوها بالسنية، كذلك من أولئك الشيعة القادمين من لندن حاملين بيان “البيت الشيعي” بعضهم كان يدّعي الليبرالية زيفاً. شاركهم الأكراد الذين كانوا واضحين في تحقيق أهداف خصوصيتهم الكردية. الأكثر خسّة ودناءة أولئك النفر من المرتزقة السنّة أدناهم مستوى سراق حيوانات بالريف وأعلاهم تجار عمولات محكومين من القضاء العراقي.

لو امتلكت المجاميع الشيعية المعارضة للنظام السابق، والتي كشفت عن نياتها بدعم لوجيستي وسياسي أميركي، الجرأة والاستعداد لقيام الدولة الشيعية في العراق لفعلت ذلك وضمنته في دستورها، ولا أعتقد أن الساسة الأميركان كانوا سيرفضون ذلك، لكن المسار التاريخي لرجال الدين في النجف لثمانين عاماً ومعهم مقلدوهم من السياسيين عجزوا عن التحضير لقيام دولة شيعية.

كان رجال الدين الشيعة في حوزة النجف، وغالبهم من أصل غير عربي، يهدفون إلى قيام حكومة شيعية. وقائع مقاومة العراقيين من رجال الدين والقبائل للاحتلال والانتداب البريطاني 1919 – 1920 أشارت مثلاً في بعض صفحاتها إلى أن محمد تقي الشيرازي، وهو فارسي تزّعم المعارضة من النجف ضد الإنجليز، كان يهدف إلى قيام حكومة شيعية في العراق، حيث دعا إلى تشكيل مجلس عراقي وفق المبادئ الدستورية الإيرانية في ذلك الوقت، لكنه فشل لصالح قيام حكم عربي، مثلّه فيما بعد الملك فيصل الأول.

ظل الغموض في المواقف السياسية من قبل رجال الدين الشيعة تجاه الدولة العراقية الجديدة عام 1920 أحد العناصر السلبية التي أنتجت سلالة الجيل اللاحق من رجال الدين وأحزاب التشيع، كالدعوة مثلاً، فهم ضد الدولة العراقية قبل أن يحكمها صدام حسين لأنها وفق نظريتهم المذهبية دولة عربية سنية، لهذا لا يمكن استغراب التبعية اللاحقة لإيران خميني وخامنئي.

لم يكن مستغرباً وقوفهم عسكريا عبْر فيلق بدر، وسياسياً في مواقف أحزابهم ومنظماتهم ضد العراق، إلى جانب إيران في حرب 1980 – 1988، وليس مستغرباً بعد حكمهم العراق تسرّعهم في فتح حرب طائفية استهدفت منذ عام 2003 وإلى حد اليوم تصفية العرب السنة ومنعهم من الشراكة الحقيقية في السلطة الجديدة، واقتناص الفرص لتصفية وتغييب من يعارضهم وتهديد التابعين لهم سياسياً بملفات بينها “الإرهاب” إن خرجوا على مشروعهم.

عندما تتحدث مع سياسييهم بحقائق إحلال دولة الفشل والفساد والميليشيات والطائفية، بدلاً من دولة المؤسسات والإنجاز والمواطنة، يتهربون تحت ستار وأكذوبة أن النظام ليس “شيعياً” إنما قائم على شراكة “المكونات”، لكن الحقيقة التي بات الجميع يعرفها أن “الشيعة الموالون لإيران لم يتمكنوا من تأسيس ونجاح دولتهم في العراق” وصورة الوضع الحالي شاهد على ذلك.

يبقى السؤال قائماً، لماذا لم ينجح شيعة الحكم بالعراق في إقامة “الدولة الشيعية”؟

تجد الإجابات المتناثرة هنا وهناك، بعضها تبريري والآخر عاجز عن الإقناع، في كتابات وتعليقات كثر من المثقفين الشيعة العراقيين الذين، رغم الكارثة الحاصلة في الحكم منذ عام 2005 وإلى حد اليوم، ينتقدون جزئيات السلوك المشين بالفساد ونهب المال العام، لكنهم لا يدخلون إلى عمق الأزمة، فلا يتعرضون للخط الشيعي بجميع موروثاته، وهم غير قادرين على التخلي عنه حتى وإن مست الممارسات الواقعية بصورة مباشرة عصب الوطنية العراقية. غالبهم يتناغم مع ما يسمّونه “دولة العدل الإلهي” في إيران أو دولة غامضة مرتبكة مصدرها مرجعية النجف.

هل يصلح العراق لقيام ونجاح دولة شيعية، أم إن سياقه التاريخي كدولة عربية سنية، وفق ما يعترف به عدد غير قليل من سياسييهم الذين خرجوا من عباءة الحكم الحالي لفساده، هو الأصلح؟

هؤلاء وغيرهم من قادة وأتباع الأحزاب الولائية المتناسلة بواجهات طائفية مذهبية تعتمد السلاح كساند لشعاراتها، لا يريدون الاعتراف بأن العراق ليس البيئة الصالحة لقيام “دولة شيعية” تحت أيّ من العناوين. التجربة المرة لعشرين عاماً كشفت ذلك، إلا إذا أرادوا هم التعدّي على الموروث الشيعي بأن الفساد والنهب وتجويع العراقيين وتجهيلهم هو عنوان “الدولة الشيعية”.

مفيد استعراض رؤى وأفكار داعمة لفكرة فشل قيام دولة شيعية في العراق تحدث بها مفكرون عراقيون شيعة.

السياسي العراقي حسن العلوي أول من دق ناقوس هذا الخطر، وحذر الشيعة قبل أكثر من عقدين من الزمان في كتابه “عمر والتشيع” ومن خلال محاضرات متعددة بأن أملهم في أن يقودوا العراق أشبه بالمستحيل، ولن يتمكنوا من بناء معالم دولة في العراق وفقا لمقاساتهم وتوجّهاتهم، لأنه من قبيل الأحلام والأمنيات التي لا تتحقق، ولأن الأغلبية السنية الحاكمة في الدول العربية لن تسمح لأقلية شيعية في المنطقة أن تكون لديها القدرة على توحيد جهدها وقياداتها وأن يكون لها شأن لا في العراق ولا في باقي الدول العربية.

مفكر وسياسي آخر رغم وقوعه سياسياً في لعبة المصالح الذاتية في دعم أحد القادة الشيعة المتطرفين هو عزت الشابندر، ينتقد بانتقائية سياسية مقصودة إخفاق شيعة العراق في إقامة قيادات شيعية ترتقي إلى مستوى آمالهم منذ أعوام الأربعينات، وحاربوا العهدين الملكي والجمهوري والأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، وحتى الثمانينات، وربما كانت الحرب العراقية – الإيرانية في تلك الفترة، من وجهة نظر الشابندر، آخر أمل لهم بأن يتمكنوا من إعداد قادة لهم. لكن نهاية الحرب العراقية واستمرار قيادة العراق آنذاك حتى التسعينات هو ما تسبب بخذلان حلم شيعة العراق في أن تتوفر لهم قيادة تقودهم إلى حيث يخططون لإقامة دولة. لهذا فشل ساسة شيعة العراق على مر تاريخ العراق وأخفقوا مرات عدة في أن يكون لهم قادة يمكن أن يُعتمد عليهم في بناء دولة.

ما تغافل الشابندر عن ذكره قصداً، ولم يتناساه حسن العلوي، أن ساسة الشيعة لا يؤمنون أصلا بمنطق الدولة، وهم قد حاربوها منذ العشرينات، وأن الدولة التي يحلم بها شيعة العراق هي “دولة المهدي المنتظر”، فهو وحده يقيم دولة العدل الإلهي. بمثل هذه الميتافيزيقيا الأوتوقراطية يحكمون العراق اليوم بالضد من هموم العراقيين وبينهم الشيعة.

مقابل هذه الجدلية الواقعية لمسار حكم باسم الشيعة عمره يقارب العشرين عاماً، هل يصلح العراق لقيام ونجاح دولة شيعية، أم إن سياقه التاريخي كدولة عربية سنية، وفق ما يعترف به عدد غير قليل من سياسييهم الذين خرجوا من عباءة الحكم الحالي لفساده، هو الأصلح؟ تجربة ثمانين عاماً أثبتت نمو ونضوج طبقة وسطى من المتعلمين وخبراء بناء الدولة من علماء وأطباء ومهندسين، استطاعوا بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي “ديمقراطي أم دكتاتوري” بناء دولة مدنية لها مكانتها ولكنها دُمرت عام 2003.

الخلاصة أن بيئة العراق غير صالحة لقيام دولة شيعية، الأصلح لهذا البلد قيام نظام سياسي ديمقراطي على قواعد الهوية الوطنية باعتبارها العنوان لإنسانه العراقي فقط بلا هويات فرعية حيث يحتفظ بها الفرد في خزانته الخاصة الفكرية والعقائدية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *