الفردية الضائعة

الفردية الضائعة
آخر تحديث:

ياسين طه حافظ
جاء في كتاب «المدنية» لكلايف بل: «ان الإغريق كانوا هم المخترعين للفردية بصورتها الأولى. وفي عالم يسوده الرق والخرافات الشرقية، كانوا هم أول من هب لإثبات القيمة الشخصية للمواطن المتعلم الذكي. كانوا أول من فكر في أن المرء بحواسه وعواطفه وذهنه هو سيد العالم وأن الدنيا قوقعته التي يستطيع أن يفتحها بالذكاء والشجاعة وان عقل الفرد يقابل قوى الطبيعة وان كل إنسان يستطيع أن يشعر وان يفكر هو ملك حقا..».
أرجو الاهتمام بالعبارة «البولد الأولى»: المواطن المتعلم الذكي أي المثقف في لغة اليوم. فغير الذكي لا يمكن أن يكون مثقفا حتى إذا تعلم.. القدرة على استكناه المعنى والقدرة على كشف الدلالة الأبعد وعلى الفهم المتقدم الخاص، مزايا أولى للمثقف الذكي.
المبدع مثقف ذكي. وإذا لم يتعلم جيدا» بلغة كلايف بل، ولم يمتلك الذكاء الذي يستنير وينير، فسنكون أمام كتابات بليدة، اعتيادية مكررة ولا تأتي
 بجديد.
ليس الحديث عن المبدعين الأدباء وحدهم، الحديث عن المتعلم الذكي في جميع الحقول: زراعة، صناعة، تجارة، تعليم أو سياسة. وإذا كانت البلادة مزعجة لكن غير ضارة كثيرا، فالبلادة في السياسة مدمرة وقد تحرق البلاد وبلاد الجوار.
وهنا، بعيدا عن الضرر واللاضرر، كم  نستطيع أن نحتفي بالفردية؟ أظن احترامها أساس أول للتقدم الاجتماعي. الإنسان بفرديته المتميزة: ذكاء وقدرة إبداع وخصوصية رأي، هي ما يحتاجه العمل. أي عمل.
لكن الفردية المُحتَفى بها، التي نريد ازدهارها، هي الفردية القوية والأصيلة. لا الضعيفة المتهاونة، تعبث بها الأفكار والأهواء.. والتي تترك قواها الأصيلة جانبا من اجل هِبَة أو رضا. هذه مؤسفات ضارة. فهي مربكة للمجتمع وقيمهِ وهي بائعة بثمن بخس أو متنازلة عن حضورها الخاص، عن معدنها الذاتي اللامع المتميز.
الايطاليون في عصر النهضة أحسوا إحساسا قويا بأهمية الفرد بوصفه المصدر الأساس لكل ما هو فاخر، مثير وله دلالة، وسعوا لأن تكون له تمام الحرية والتجربة.. لكن المزايا الإنسانية الخاصة تحتاج إلى بناء أخلاقي يحميها من التلف أو من أن تُسْرَق أو تشتريها الجهالة ونفعية التجار حكاما، سلطات أو متكسّبين..
اسمحوا لي بان أقول ما ترددت كثيرا في قوله خشية أن أمس إحساس احد بما يؤلم. إن الحال التي فيها المثقف العراقي، والعربي بعامة، من ضآلة أو لا اهتمام، أو استهانة، سببها انه أديب أو مثقف ضعيف الشخصية، هو هيّن سهل الإغراء والإرضاء. المتمردون القلة لا يغيرون من الحقيقة شيئا. هو لا يمتلك البناء القيمي الذي يحمي امتيازاته الفردية اللامعة والمهمة والمؤثرة.
 الحكومات والحكام يعرفون هذه الحقيقة ويستغلونها جيدا.
وسأعف عن ذكر الأمثلة لكن لابد من القول ان الفردية المتكاملة هي فردية العقل وفردية القيم وبلا تكامل لا تعني شيئا! والخسارة هنا ليست خسارة إفراد ممتازين حسب ولكن خسارة امتيازات إنسانية نادرة من ذكاء وفهم وثقافة.
 هذه تصبح لا قيمة لها وتورث بدل الفخر أسفا..
هذا الكلام ليس مقابلا مضادا أو بديلا عن الاهتمام بالجماعة أو بالجماهير في حراكها الدائم وجهدها المنوع والمشترك في تطوير حياتنا وديمومتها.
 على  العكس من ذلك تماما هو إضافة اهتمام للنقاط والأسماء البارزة في هذه الجماعة أو بين الناس.
 لابد من تفكير سليم عام من غير نزوع للتبجيل هنا والإدانة هناك وان لا يُفهَم كلامنا خطأً فالأفراد المتميزون ليسوا منفصلين عن الحياة أو عن الجماعة هم بعض جيد، نشيط، ذكي، بارع في الجماعة وهم يضيفون بوجودهم تحسنا نوعيا.
والاحتفاء بهم احتفاء بامتياز الجماعة التي هم منها، احتفاء بالفريق كله أو بالحياة! تحية للممتازين المتفردين من الناس، عمالا أو كتابا أو علماء أو مقاتلين!.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *