المصالح النفعية مُحرّك الطبقة الحاكمة في العراق

المصالح النفعية مُحرّك الطبقة الحاكمة في العراق
آخر تحديث:

بقلم:د. ماجد السامرائي

لم يتوقع أحد لتحالف “إنقاذ وطن” الذي تشكّل بعد الانتخابات الأخيرة في العراق بين قيادات التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني والسيادة السني، الاستجابة لمعطيات والتزامات التحالفات السياسية التقليدية. في عراق ما بعد 2003 لا مبادئ سياسية تتحكم في المواقف. الدوافع النفعية المباشرة والآفاق الضيقة حتى لدى من يعتدون بأنفسهم أمام أقرانهم كالحزب الديمقراطي الكردستاني هي المحرك الأول للمواقف.

السياسيون الكرد يدافعون بقوة عن بقاء هذا النظام السياسي رغم كوارثه، ويعتبرون أنفسهم في مقدمة صانعيه. من دونهم، مهما توغل قادة الأحزاب المذهبية الشيعية في هيمنتهم على الحكم، غير قادرين على الانفراد والحفاظ على بقاء هذا النظام الذي تحلّل وتفكك ولم يعد حماته قادرين على استمراره بمنحه دفقات من أوكسجين اللحظات الأخيرة.

الأكراد يلعبون اليوم وفق قانون المحاصصة الطائفية السيء على استثمار موقعهم التاريخي، خصوصا حين تتعقّد مشكلات النزاع بين الأطراف الشيعية وتصبح مهددة لاستمرارهم. حصل ذلك في العام 2010 حين كانت الفرصة تاريخية لنزع السلطة عن حزب الدعوة والطائفية الشيعية إلى قائمة إياد علاوي، وأرجعوها إلى نوري المالكي في مقدمات تنفيذ تلك الخلطة اللئيمة في استخدام المحكمة الاتحادية وسيلة قانونية لا يستطيع أحد من قادة العمل السياسي رفضها.

رغم تلك المكانة الكردية المدعومة أميركيا، والمرضي عنها إيرانيا، كان طغيان القادة الشيعة يعكس التربية اللئيمة والمكر وخيانة العهود والمواثيق التي تعلموها بطاعة عالية في الانقلاب على المواثيق والعهود، فانقلبوا على التحالف القديم (التحالف الشيعي الكردي) إلى محاولة الانفراد خشية الإطاحة بهم عن طريق تحالفات واتفاقات وصفقات كردية سنيّة مفاجئة، كالتي حصلت بعد الانتخابات في تحالف “إنقاذ وطن” لقيام حكومة “أغلبية وطنية” تم تعطيلها بقوة، ووضع مقتدى الصدر في زاوية حرجة هدّدت مكانته السياسية التي انتعش بها بعد فوزه الانتخابي الساحق، واضطر لتسليمها للخصم التاريخي نوري المالكي وتحالفه “الإطار التنسيقي”.

ما يسمّى بتحالف القوى السنية المنقسم على ضفتي الصراع الشيعي – الشيعي، كشف عن مستوى متدنٍ في التعاطي السياسي وتقديم المنافع الخاصة على المصالح الشعبية العامة. الزعامات السنية تعرف مستوى مكانتها السياسية، فهي مجرد إضافة رقمية لفكرة المحاصصة التي أثبتت الأيام أنها واحدة من أبرز عناصر الانهيار في بنية النظام السياسي الفاسد.

هذا المحتوى المتدني يلائم فكرة المصالح النفعية التي لم تتجاوزها تلك الكتل الشللية السنية. أكثرهم ذكاء وشطارة هم أولئك الفاسدون الحاملون لتاريخ غير مشرف اجتماعيا بالنهب والسرقة.

الزعامات الشيعية، خاصة التي أصبحت تتشرّف بولائها للمرشد الإيراني الأعلى، ظلّت إلى حد هذه اللحظة هي من يهيمن على غالبية مفاتيح الخزائن المالية (النقدية) عبر الكثير من السبل، مثل ما سمّي بمزاد العملة للبنك المركزي أو المصارف لتبييض الأموال، أو مردودات إيرادات الحكومة الجارية في منافذ الحدود، والمفصل الأكثر إيرادا لمافيات الفساد واستنزاف وسرقة ميزانيات الحكومة الدورية عبر النهب في العقود والصفقات التجارية في ميزانية عام 2014 التي لم تُعلن أرقامها وكانت بالمليارات تحت حكم نوري المالكي. وكانت تحمي تلك الأحزاب الفاسدة في جميع تلك الميادين الميليشيات المسلحة.

محاولات مقتدى الصدر الإعلامية والسياسية فتح طريق التحدي لمسار الفساد الكبير، الذي تجاوز الحدود الطبيعية إلى عالم مجنون، وصل بتلك الزعامات المتورطة التي اختارت لنفسها اسم “الإطار التنسيقي”، كتعبير عن الحرص على البقاء بذات المنهج والطريق منذ عام 2003 إلى مرحلة الصدام بمختلف مظاهره، حتى لو وصل الأمر إلى الصدام المسلح للحيلولة دون نجاح مشروع الصدر “الإصلاح” المحافظ على النظام السياسي الحالي، رغم بعض الشطحات الإعلامية للصدر في الأيام الأخيرة بالدعوة إلى تغيير النظام السياسي.

عوامل وأسباب كثيرة قسم منها يتعلق بعدم وضوح فكرة “التغيير والثورة” التي أعلنها الصدر، إضافة إلى عدم وضوح أسباب انفراده بالقرارات ذات المنحى الشعبي، بعد تسلميه لمقاعد الفوز بالغالبية البرلمانية التي حصلت عليها قائمته الانتخابية دون إخبار حلفائه الكرد والسنة، رغم تحالفه معهم في “إنقاذ وطن” الذي أصبح بحكم المنتهي، ما منح الغريم الشيعي الذي يتزعمه نوري المالكي إمكانيات الغلبة والهيمنة على المسرح السياسي، عبر الاستعانة بتقاليد عدم تجاوز “الدستورية والقانونية” في مسار مطالب الصدر بحل البرلمان وإقامة انتخابات مبكرة مجددا.

شعر الغريم الشيعي للصدر أن مشروعه قد وصل إلى حالة التوقف والجمود، بل والموت، وهم يعتقدون أنه لم يعد عائقا جدّيا لتجديد مشروعهم في قيام حكومة توافق على ذات المسار الفاسد والمستبد، لكن مشكلتهم كيفية الحصول على ولاء برلماني إذا ما تم عقد جلسته المنتظرة، وهو أمر يثير الشكوك لحد اللحظة، عبر كسب الأكراد كقوة برلمانية لها أهميتها. القادة الشيعة يعرفون جيّدا ما يحرّك الأكراد وفق دوافع مصالحهم النفعية، إلى جانب كتلة “السيادة” السنية بقيادة خميس الخنجر، والذي أكثر ما يؤرقه هو قصة فقدان المصالح النفعية أيضا.

وما أكد حقيقة “الدوافع النفعية” الكردية، هو ما صدر أخيرا من موقف كردي رسمي في عدم الاستجابة لدعوة مقتدى الصدر عبر وزيره صالح العراقي، الذي طالب الأكراد بموقف تاريخي ومقاطعة جلسة البرلمان لكي يكسبوا معركة حله “إننا نعي كثرة الضغوط على حلفائنا لكن التضحية من أجل إنهاء معاناة شعب بأكمله أيضا أمر محمود ومطلوب، فالشعب لا التيار هو من يرفض تدوير الوجوه وإعادة تصنيع حكومة فاسدة مرة أخرى”، لافتا إلى أن “الكرة في ملعب الحلفاء لا في ملعب الكتلة الصدرية”.

لكن الأكراد اعتذروا عن تلبية دعوة الصدر بالمقاطعة عبر تصريح الناطق الرسمي باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني محمود محمد الذي قال “الانسحاب من البرلمان يجب أن يتم بتوافق بين القوى السياسية في العراق. الحزب يفضّل اتخاذ قرار مشترك من قبل القوى والأطراف السياسية الفاعلة في العراق بشأن مسألة حل مجلس النواب. وضع إقليم كردستان لا يشبه وضع بقية المكونات الشيعية والسنية، لأن هناك الكثير من الملفات التي تتعلق بقُوتِ المواطنين في الإقليم لم يتم التوصل إلى حلها مع الحكومة الاتحادية، وهذا ما يمنع الحزب الديمقراطي الكردستاني من الانسحاب من العملية السياسية”.

المعنى المباشر لهذا التصريح الصادم للصدر أن القيادة الكردستانية المتمثلة بحزب مسعود بارزاني لا تفرّط بتحالفها مع القيادات الشيعية الولائية رغم النكسات الكثيرة التي واجهتها منهم، خصوصا تعطيل قانون النفط والغاز الكردي ومنع القيادي هوشيار زيباري من الترشح لرئاسة الجمهورية. لكن لأسلوب الخداع مجال واسع للأحزاب الشيعية في المناورة وتقديم ما يريده الأكراد، حتى موضوع قانون النفط المُلغى بالإمكان تجاوزه. هم يلعبون بتفسير القوانين والقرارات العليا المتعلقة بالمحكمة الاتحادية لأنها تحت هيمنتهم وفق الوقائع.

هكذا إذن خيّب الحزب الديمقراطي الكردستاني آمال الصدر بصورة مباشرة، فماذا بقي من تحالف “إنقاذ وطن” البرلماني بعد انسحاب الكتلة الصدرية. أما إذا كان تحالفا سياسيا بالمعنى الشائع، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، كان لا بد للصدر من التشاور معهم قبل إعلانه المفاجئ بترك البرلمان وتسليم مقاعده الفائزة لإطار المالكي.

إضافة إلى موقف الصدر الشخصي بإعلانه اعتزال العمل السياسي ونهاية ثورته، على أي الأسس يطلب مواقف مصيرية من الأكراد والسنة تنهي أو تعرّض مصالحهم النفعية للضياع.

الأكراد بصورة خاصة لديهم أساليبهم البراغماتية بعدم خسارة صداقة أي قوة في العملية السياسية، رغم الانتقادات العامة في أوساطهم السياسية وخلال لقاءاتهم الدبلوماسية خصوصا مع الولاة الأميركان، تلك الانتقادات تتمحور حول الشكوى من محاولات القادة الشيعة سلب مكاسبهم ومنافعهم عبر عشرين عاما، وليس التخطيط أو الدخول بأي وعود لإنهاء نظام المحاصصة القائم.

الدوافع النفعية والتشبث بتأمين المصالح الخاصة هي العنوان الكبير الذي يجمع جميع الأحزاب المتشبثة بالبقاء والاستمرار في عملية أنتجت نظاما فاسدا وفّر إمكانيات اللعب بمصير العراقيين، وهي ذاتها تشكل أسبابا للنزاع والصراع حتى المسلح، وليس الحرص أو الدفاع عن مصالح الشعب المغلوب على أمره.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *