المكتبة العامة

المكتبة العامة
آخر تحديث:

د. محمد مظهر صالح

كان اواخر خريف العام 1957 مناسبة مهمة لتُفتتح فيها المكتبة العامة في مدينتي. وهي شيء من الجدية التي تعني الايمان بالتطور سواء اكان الايمان بالانسان ام بالعلم ام بالاثنين معاً. فقد عشنا في ذلك اليوم «يوم المكتبة»، مناخا يعبق بالتقدم بعد ان قص شريط الافتتاح رئيس وزراء العراق، وحييناه نحن طلاب «الحركة الكشفية» بناة العراق الجديد، انه الراحل عبد الوهاب مرجان تلك الشخصية العراقية النادرة سواءَ في حب الحقيقة والنزاهة اوالاستعداد التلقائي للنظرة الانسانية الشاملة.
كانت المدينة في يوم افتتاح مكتبتها العامة  في اعلى مراحل رفعتها وازدهارها. وقد فُتنت منذ صغري بالدقة والنظام  وانا اشارك في استقبال تلك الشخصية الحكومية الرفيعة المبتسمة الهادئة، ولم يُحرم احد من مستقبليه من تواضعه وهو يقود تجربة سامية  بنجاح مثالي في تأسيس الثقافة العراقية  واكساب البلاد لغة جديدة اسمها العلم .
تبسم رئيس الوزراء الراحل وهو يتجول بين رفوف الكتب، وسره حقاً تناول كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ وكتاب في وصف المتنبي وشعره وعبقريته، فارتسمت على وجهه يومذاك  تعابير دلت جميعها على ان هذه المكتبة هي المكان الذي تحيا فيه القيم وتستمد منه الحضارة ديمومتها، وان ما يجب دراسته في هذا الصرح هي كيفية التصدي لمشكلة العابثين الذين لايملكون الايمان الحقيقي والجدية بالحياة، فهم بلا جذور، يمارسون تحت ستار الايمان أخسأ انواع الاستغلال والانتهازية والعبثية.
الجدية بالقراءة وبناء الثقافة وتلمس مسالك العلوم تعني الايمان بذاته. هكذا شيد عبد الوهاب مرجان التاريخ بذاكرته. ولكن لم يسأل احد اليوم عن مصير تلك المكتبة العامة بعد انقضاء  ستة  عقود من تاريخ العراق الحديث ؟ الجواب، نعم انها  تدفن في احضان  التوحش والظلام والمجهول او الموت. فقد امست مكتبتنا متحفاً للحشرات الآكلة للعلم والثقافة. انها
دار خراب ومقر للسلب والنهب والذبح.
يتسارع الجبناء اليها، ليس طلبا للمعرفة، بل لتقديم فروض الطاعة الى من احتل مدينتهم  وأحل الفساد والانحلال فيها محل الرفعة والعلم. فقد انتشر القتل وحلت الانتهازية وتمزقت المدينة وطاردت احرارها الدسائس بلغة خرساء، واجتاح اهلها الجهل وسفك الدماء .فالجميع يتساءل مالذي حل في تلك المكتبة، من اين والى اين وهل من نهاية لهذه الموجة الهمجية العارمة؟
انهم  ينظرون بحزن الى معتوه مزق الكتب واخذ يتكلم مع كابوس عن مستقبل مجهول.انهم رواد المكتبة العامة في تلك المدينة المحتلة، تراهم اليوم شبه اموات من احساس بالتفاهة  والخيانة ازاء  محتل لايتورع في ارتكاب عبثية القتل  ومصادرة الارزاق لينفسح المجال لصراع حاد بين جدية الحياة  وهول العبث.ختاماً، من يحرر مكتبة طفولتي من براثن «داعش» ؟ من يعيد تلك المدينة الى عصور ازدهارها بعد ان فقدت المعنى بجدية الحياة..؟

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *