النقد غاية.. فلا تتوسلوه

النقد غاية.. فلا تتوسلوه
آخر تحديث:

د. نادية هناوي

ليس النقد الأدبي بمختلف أشكاله وأنواعه أداة بها نصل إلى غايات بعضها حسن وخير، وبعضها الآخر سيء وشرير؛ بل النقد غاية تتعدى حدود الواجب والمسؤولية وتتجاوز مديات العلم والتمدرس والتثقف كما تعلو على أن تكون مجرد وظيفة أو حرفة. 

أما لماذا النقد غاية، فلأنه العلم الذي به نكتشف الجماليات، ولأنه الإبداع الذي به نكمل النواقص ونسد الثغرات، ولأنه الطاقة التي في قوتها جودة صنائعها، ولأنه الموهبة التي عموم فائدتها تكمن في فرادتها، ولأنه أيضا العمل الجاد الذي قيمته في ما ينجزه.

ولقد وضع أسلافنا النقاد الأقدمون في بالهم أن لا إبداع حقيقيا شعريا كان أم نثريا إلا بنقد حقيقي سليم كما أن لا حياة للنقد من دون إبداع يعطي الناقد 

حياة وحيوية يمارسها وهو يحلل النصوص فيعيد تركيبها وتقويمها بقراءة تتوافق أو تختلف أو تتعارض مع قراءات سابقة.

وأي جدل أو حوار قد يترتب على هذا الاختلاف والتعارض سيغدو ضرورياً لأن به ستتلاقح الافكار وتتقارب الرؤى وتستعرض الحجج فتتوضح التوجهات والغايات.

وبالشكل الذي يوصل إلى نتائج علمية واضحة ودقيقة. فليست البغية من وراء التجادل النقدي الطعن والتسقيط وإنما التعزيز لما هو صحيح في أبعاده المعرفية، والتوطيد لما هو أصيل ورصين من التوجهات النظرية والممارسات التطبيقية التي بالجدل ستكون في منأى عن الخلط واللبس والصد والمساءلة.ذلك أن النقد علم له أساساته ومناهجه وليس متروك الحبل على الغارب.

ولو كان كذلك لما كانت للنقد فروضه وموجهاته على مر الاجيال.هذا إلى جانب ما يكتسبه المشهد الثقافي من وراء الجدل النقدي من حراك معرفي يبدد الجمود والرتابة ويقضي على روح التنميط والتحجر.ولو استعرضنا تاريخ الفكر الانساني لوجدنا أن للجدالات والحوارات بين الفلاسفة والمفكرين دورا مهما في تنشيط حركة الفكر وبعضها أسفر عن مسائل قيمة وأدى إلى نتائج ايجابية من دون أن تكون في أي من هذه الجدالات مسائل شخصية او اساليب تعريض وثلب.   

ولقد مارس نقادنا القدماء الجدل النقدي فاختلفوا في آرائهم وتغايروا في مناهجهم وتجادلوا جدالات كانت نتيجتها أن ألفت في نقدنا القديم مؤلفات نقدية بعضها حوى ما يشبه النظرية، كما صارت لبعض النقاد مدارس في النقد كانت قد أثرت تأثيرا حقيقيا في حقب تاريخية لاحقة.

ولنا في مدرستي البصرة والكوفة النحويتين خير مثال على الواقع التحاوري النشط آنذاك والقائم على أساس معرفي عماده الاختلاف في مسائل تتعلق بعلوم اللغة ومواضعات الاعراب والصرف والاشتقاق.

وهو ما شكَّل ملمحاً صار بمثابة سياق معرفي اتقدت جذوته في العصر العباسي كما اتسعت ميادينه وصارت هذه الفاعلية الجدلية تظهر على توجهات بعض اللغويين الاندلسيين ومنهم ابن مضاء القرطبي ثم خمدت تلك الفاعلية أبان العصور اللاحقة التي عمَّ فيها الجهل فتراجع النشاط النقدي والعلمي إلى أن جاءت النهضة الأدبية الحديثة فشرع الأدباء والنقاد يحثون خطاهم نحو ما هو جديد. 

ودخلوا في جدالات ومحاورات، اتسع نطاق بعضها حتى شكَّل ظاهرة شغلت الأوساط الثقافية آنذاك وساعدت الصحف والمجلات في شيوعها.والأمثلة على ذلك كثيرة في مصر والعراق وبلاد الشام.

والامر نفسه يقال عن النقد الغربي الحديث الذي فيه نجد أن الاختلاف والجدال والاختصام امور طبيعية لا تتجاوز حدود الاعراف العلمية والتقاليد الادبية.ومحصلتها في العموم نظريات ذات وزن معرفي ما زلنا نعتمد عليها في نقودنا وقراءاتنا.

وبعد كل الانجازات التي شهدها نقدنا العربي القديم وبعد الصحوة المعرفية والغنى الفكري والنشاط القرائي الذي تجسد في نقدنا الادبي الحديث وما كان فيه من رواج الترجمة والتأليف الى جانب الجدل بين النقاد والادباء او النقاد مع النقاد، نأتي اليوم الى واقعنا الثقافي فلا نجد فيه من الجدل او التحاور ما يشي بروح التفاعل البنّاء لا عند النقاد وحدهم بل عند الغالبية من كتّابنا باحثين ودارسين وأساتذة أدباء ومتأدبين. وإذا صادف أن وجد أحدهم نفسه في موضع عليه أن يحتج فيه بحجة فلن يجد سوى حجة التذاكي برفقة علم كبير أو مفكر معروف أو ناقد محترف مثل علي الوردي أو مدني صالح أو علي الشوك أو عبد الطاهر جليل أو علي جواد الطاهر أو حسين محفوظ. وقد يكون هذا المتذاكي بالكاد صادف أن صادف أحد هؤلاء الأعلام ذات مرة، وربما لم يصادفهم أصلا.

وقد يكون قرأ لواحد أو أكثر منهم أو درس على يد أحدهم.وشتان ما بين تلميذ وأستاذ ومع ذلك تجد التلميذ يتقول..  وغايته أن يتخذ من الكبار عكازة يتكئ عليها، وبها يضمن عدم اختلال قدمه والانزلاق على حين غرة، مظهرا نفسه للآخرين بصورة القرين لهم بينما هو لا يكافئهم.  

لا أقول إن الاستشهاد بالكبار ـ كأسماء فقط أو كصور شاهدها أو سمعها وليس كآراء وأفكار وتوجهات وطرائق ومنجزات ـ يقتضي شاهد إثبات وهو أمر حصيف طبعا لمن لا يريد للشبهات ان تساور سامعه او قارئه لكني اقول إن التعكز على أسماء الكبار هو نوع من التهرب من الجدل الذي ينبغي ان يكون فاعلا بيننا. ولا مناص من القول إن من له طروحات يثق بقدرته في الدفاع عنها فحقيق به أن يتقدم بها من دون أن يضع (أسماء) الكبار تعلة يعلق عليها أحلامه في التأثير تدعيما لطروحاته.وقد أخذنا نلمس للأسف في الآونة الاخيرة هذا النوع من الممارسات التي هي محسوبة على النقد حتى إذا تكلم أحدهم استشهد بواقعة (خاصة به) مع هذه الاسماء الكبيرة العلمية او المعرفية على سبيل المشاهدات التي حصلت في حياته مسترجعا أيام زمان التي لا شاهد عليها سواه.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *