(الهدية) فيلمٌ لا يُنسى بسهولة

(الهدية) فيلمٌ لا يُنسى بسهولة
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة اخبار العراق- خدعكَ بدايات فيلم (الهدية) THE GIFT بهدوئها ومناخاتها العادية. ستجدها شبيهةً ببدايات الكثير من الأفلام التي شاهدتَها من قبل. زوجان شابان سعيدان ينتقلان من شيكاغو للعيش في إحدى ضواحي لوس أنجلوس القريبة من مسقط رأس الزوج سايمون الذي يتولّى وظيفة جديدة في إحدى شركات أنظمة الحماية. أما الزوجة، روبن، التي لم تتعافَ بعد من حادثة إجهاض، فتحاول استعادة نشاطها المهنيّ عبر العمل من المنزل في مجال تصميم الديكور، وعملها هذا سيبقيها وحيدةً معظم أوقات النهار، عرضةً للذكريات ولأحلامٍ بطفلٍ مُشتهى.
بمحض صدفةٍ قدرية، يلتقي الزوجان وهما يتسوّقان في أحد متاجر التجهيزات المنزلية بغوردو، زميل قديم لسايمون في المدرسة. صدفةٍ ستقلب حياة الزوجين، المثالية في الظاهر، رأساً على عقب. إذاً، حياة جديدة، جيران غرباء، منزل كبير ذو واجهاتٍ زجاجيّة تسهّل اختراق اللحظات الخاصة، امرأةٌ لم تبرأ من خسارة جنينها الأول تحاول التعايش مع وحدتها، ثم صديقٌ غريب الأطوار من حياةٍ سابقة يظهر فجأةً ليحاول بثّ الروح في علاقةٍ قديمة ستتكشّف لنا بعض تفاصيلها، يُرسل الهدايا اللطيفة بين الحين والآخر ويتطوّع لمساعدة الزوجين على التأقلم مع حياتهما الجديدة فارضاً وجوده بطريقةٍ مثيرةٍ للريبة… معطياتٌ كافيةٌ لاستيلاد حكايةٍ قد تبدو للوهلة الأولى تقليدية، إلّا أن الاشتغال السينمائي الذي حمل توقيع الأسترالي جويل أدجرتون (1974) كاتباً – في رصيده كمؤلف (المتجول) و(جناية) و(المربع)، ومخرجاً في شريطه الطويل الأول، منعه من الوقوع في حبائل الابتذال.
لم يكتفِ أدجرتون في (الهدية) بالتأليف والإخراج، بل زاد من تورُّطه في هذا العمل بأن لعب دور غوردو- شاهدناه قبل عامين في دور توم بوخانان في النسخة السينمائية الأخيرة من (غاتسبي العظيم)، وقد أداه ببراعة الخبيرِ العارف ببواطنِ أمور فيلمه، المتحكّم بأحداثه وبوتيرته الذكية وبحبكته التي تربكك وتتلاعب بمشاعرك وتلقي بك في منطقة رماديةٍ تتأرجح فيها بين الشفقة والتعاطف والاشمئزاز والإدانة.
في الأدوار الرئيسية، إلى جانب أدجرتون، جايسون بايتمان الذي قدّم أداءً مختلفاً عن أدواره السابقة، الكوميدية في أغلبها إِنْ في السينما أو في التليفزيون. من الزوج المتفهّم والموظف الناجح والطموح المحبوب من زملائه، إلى الأنانيّ المنافق، يخلـع أمامنا بايتمان، مشهداً بعد مشهد، أقنعته الكثيرة، التي تُخفي وراءهـا بعـض ملامح المجتمع الأميركـي الذي يتسامـح مـع القسـوة ويبرّرهـا.
في أحد مشاهد الفيلم الكاشفة، يعلن سايمون لزوجته الحائرة حيالَ شخصية غوردو والباحثة عن الحقائق البسيطة وعن سلامٍ داخليّ مفقود، وجهة نظره بيقينِ الأقوياءِ الظانّين أنهم يملكون كل أوراق اللعبة، مروّجاً لنظريته عن انقسام العالم بين رابحين (مثله) يتحكّمون بزمام أمورهم ويمضون في الحياة مسجّلين انتصاراً بعد آخر، وخاسرين (كـغوردو) يختارون أن يبقوا أسرى عُقد النقص والإخفاقات الماضية.
في دور روبن، ريبيكا هول (فيكي كريستينا برشلونة)، (ذا برستيج) في أداءٍ هادئ يُخفي ما يُخفي من هشاشة وقلقٍ سيفاقمهما ظهور غوردو وهداياه ورسائله وكلماته الغامضة عن تاريخٍ مشتركٍ بينه وبين سايمون فيه ما فيه من الأسرار. روبن هي ما بقي من نبلٍ إنساني معذّب في عالمٍ التبست فيه الحدود الفاصلة بين الخير والشرّ، وهي الكنز الذي سيتنازع عليه سايمون وغوردو في الخفاء، هذان الرجلان اللذان لم تغيرهما السنوات، بل إن قسوة المراهق المتنمِّر لدى أحدهما استحالت قشرةً صلبةً تُخفي ترسانةً صغيرة من الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، فيما يبدو الآخر وكأنه تجمّد في حكاية الماضي الحزينة، بل إنه ازدادَ هشاشةً وخجلاً وحيرةً وارتباكاً إزاءَ رغبةٍ مُتردّدة في مصالحة لا تجد لها صدىً لدى الطرف الآخر.
رسم أدجرتون الشخصيات بحرفيةٍ تليق بكتّاب سيناريو كبار، فلم يدع مجالاً لانحيازٍ كامل إلى أحد الرجلين اللذين تناوبا على لعب دور الطيب والشرير، وبينهما روبن الحائرة بين ثقة سايمون وقوته من جهة وهشاشة غوردو التي تُحاكي هشاشتها من جهة أخرى. سيكون لروبن، التي ظنناها ذاتاً هامشيّة، دورٌ رئيسي في إماطة اللثام عن خطايا الماضي التي لن تترك ضحاياها يعيشون بسلام، وكأن تلك الخطايا كانت طوال هذه السنوات واقفةً على الباب بانتظار لحظة القصاص.
ابتعد أدجرتون عن المبالغةِ في الأحداث ليجعلَ مآلات الشخصيات نفسها وخياراتها هي مصدر المفاجآت. لا مصائر ثابتة، ولا صور مثالية، والشقوق الخفية في الجدار ستتعرّى رويداً بتأثير الضغوط. أدجرتون الـذي تخيّر وتيـرةً بطيئـة في البدايـة، دون أن تكون باعثـةً على السأم، ما يلبث أن يدفعها بذكاء إلى التسارع والتفاقم، عبر مراكمةٍ متأنية ومدروسة للمسوغات والتحوّلات والمنعطفات التي ستضلّل المتفرج وتجعله يشكّك في قناعاته المبدئية ويعيد النظر فيها مع كل تطـوّر، ولـن يشعر في النهاية أنه انتظـرَ شيئـاً لـم يـأتِ، رغـم الخاتمـةِ غيـر المتوقّعـة.
(الهدية) فيلم تشويق ناضج، ذكي وبارع في تطويع مشهدياتٍ مألوفة جرى استخدامها من قبل في العديد من الأفلام.. ماء متدفقة من صنبورٍ في مطبخٍ خالٍ، كلبٌ يختفي ثم يظهر فجأةً، أسماك ميتة في بركة صغيرة، أطياف وأشباح .. إلّا أن المخرج ينجح في إدراجها ضمن توليفتِه الخاصة به النائية عن العنف والدماء لصالحِ خوفٍ يتسلّل على غفلة ونذرٍ مخيّمةٍ في اللقطات المشحونة والتقطيعات المشهدية المدروسة، في الصمت المراوغ، في الموسيقى المتناوبةِ مع لحظاتِ سكونٍ خادعة وفي خطوات روبن ونظراتها الحذرة المتلفتة وهي تمارس رياضة الجري في الحي الخالي من البشر.
هذا الفيلم الذي تسلّل إلى الموسم السينمائي الصيفي بين مجموعة من أفلام الكوميديا والأكشن، يستلهم الأجواء الهيتشكوكية، مكترثاً على طريقته لمعايير شبّاك التذاكر، بلا استسهال ولا تنازلات. أما النهاية الملتوية والمشوّشة فتعيد إلى الذاكرة نهايات (سبعة) و(المشبوهـون المعتـادون) الصادمـة.
(الهدية) فيلمٌ لا يُنسى بسهولة، يترك خلفه أسئلته المؤرّقة: هل نعلم حقّاً مَنْ هم الأشخاص الذين يعيشون معنا؟ كم يخفون عنّا من أسرار؟ هل تبرأ جراح الماضي مع الزمن، وهل كل الجراح سواء؟ أوَليس البادئ أظلم؟ لكن ما مدى مسؤولية الضحية نفسها عن عذاباتها؟ أسئلةٌ مُغلّفة بحكاية أخرى من بين آلاف الحكايات التي تحمل في طياتها هجاءً مبطّناً لمجتمعٍ زاخر بالتناقضات ومتساهل مع العنف، تاركاً الضحية أمام خيار إحقاق ما تظن أنها العدالة بيدها، مهما كانت فداحة الثمن وإرث الخطايا الجديدة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *