الهيمنة الثقافية وشهوة الاستهلاك

الهيمنة الثقافية وشهوة الاستهلاك
آخر تحديث:

د. كريم شغيدل
إذا تتبعنا تطور لفظة (ثقافة) بحسب رايموند وليامز فسنجد الآتي:
•الجذر المعجمي”اتجاه النمو الطبيعي”.
• التماثل مع المعنى”عملية تدريب إنساني” وضمناً “تهذيب شيء ما في العادة”.
• أصبحت تعني”شيئا مستقلا في حد ذاته، وذلك في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر”.
ومن هذه المرحلة أخذت تنتقل من مداها اللفظي إلى المدى المفهومي لتصبح وفقاً لوليامز تعني:
• “حالة أو عادة عقلية عامة- ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة الكمال الانساني”.
• “الحالة العامة للتطور الفكري في مجتمع بأسره”.
• “الكيان العام للفنون”.
• “طريقة شاملة للحياة مادية، وعقلية، وروحية”.
وهذا المعنى الأخير قد شاع في القرن العشرين عن طريق الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع اللذين تأثر بهما أليوت الذي وجد أنَّ”الثقافة تشمل جميع المناشط والاهتمامات لشعب ما..”
وقد ميّز بين معانِ ثلاثة للثقافة”طبقاً لما نعده: تطور فرد ما، أو تطور فئة أو طبقة، أو تطور مجتمع بأسره” كما يذكر وليامز نفسه.
 ويرى وليامز أيضاً أنَّ الثقافة من إنتاج الطبقات القديمة التي تمتعت بوقت فراغ، مثلما هي ميراث الطبقة الجديدة التي تحتوي على إنسانية المستقبل.
    إنَّ كثرة التعريفات وتداخلها لا تفضي إلى نتيجة يمكن الاتفاق عليها، غير أنَّ لا غنىً من الإحاطة بها لتأطير المفهوم وتوضيح الفكرة،”فالثقافة ليست كينونة خارجية قائمة بذاتها، ولا تقع خارج تأثيرات عناصرها وبيئتها، وإنما هي فعالية تعزز ذات العناصر التي تتشكل الثقافة منها” كما ورد في معجم المصطلحات الأدبية، ففي العام 1970 عقدت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والتربية ندوة لمناقشة الحقوق الثقافية، فوصل الأمر حدَّ الضجر والسخرية بسبب هيمنة قضية تعريفات الثقافة على أصل الموضوع، ثمَّ خلصت الندوة إلى أنَّ”كلمة ثقافة استعملت في أوسع المعاني، وأضيقها في آن واحد” كما يقول حسين مؤنس، وهو رأي (تيري إيغلتون) فكلمة(ثقافة) عنده “أوسع بكثير وأضيق بكثير من أن تكون ذات غناء كبير..
 وتوصل المشاركون في الندوة إلى إنَّ إعطاء لفظ ثقافة”معنى واسعاً جداً يجعلها تشمل كل وجوه نشاط الإنسان”
 كما يشير مؤنس، هو إبهام لمعناها ومبناها، لذلك حاولوا تحديدها بطريقتين” ففي أحد الطرفين نجد أنَّ الثقافة هي كل ما يميز الإنسان عن غيره ويجعله انسانا، وفي الطرف الثاني هي كل ما يميز شعباً عن شعب. والمفهوم الثاني أيسر على التحديد نسبيا” فقد أسهم تقدم الأفكار الاجتماعية في بلورة التأملات الواسعة حول الثقافة”>
 لذلك يمكن تصنيف تعريفات الثقافة بحسب الحقول التي بحثتها أو بحسب وجهة النظر التي انطلق منها التعريف، فلا غرابة أن نجد تعريفاً اجتماعياً وآخر أنثروبولوجيا أو أيديولوجياً، أو نفسياً، أو مادياً، أو سياسياً، أو وظيفياً، وما إلى ذلك لأنَّ “التحول من الكلمة إلى المفهوم، هو تحول الحسي إلى الذهني، ومن البسيط إلى المركب، ومن البياني إلى البرهاني، وجماع القول هو التحول من عالم اللغة وقــوانينها إلى عالم الاجتمـاع وقـوانينــه”كمـا يــرى زكي الميــلاد.
يرسم منظّرو مدرسة فرانكفورت تصوراً تمَّ تطويره من قبل نظرية القابلية الاجتماعية الثقافية للنمو، فالثقافة عندهم”هي السبل التي تتبعها المجتمعات والأفراد لوضع تصور عن العالم، وانها العامل الوحيد لدمج الافراد بالمجتمع دمجاً ناجحا” كما يورد حفناوي بعلي، في حين يجمع الدارسون على إنَّ الثقافة تعمل على تكريس الفروقات الثقافية وخلق الهويات المتعددة في إطار الأمة الواحدة بما لا يحول دون تعايش المجتمع وانسجامه، وقد وجد علماء الاجتماع في الثقافة بديلاً عن اللون والعرق والبيئة
الطبيعية.
كما انها بلورت عندهم نظرة كلية عن المجتمع، لكونها من عوامل تهيئة الفرد نفسياً وذهنياً لاندراجه في المجتمع كما يرى بعض المفكرين، وفي الوقت الذي يكون فيه التعدد الثقافي سبباً لعدم استقرار بعض المجتمعات، وتعلو فيها دعوات مقاومة الغزو الثقافي، يبلور(أدوار سعيد) نظرة تفاؤلية مضادة لفكرة(صاموئيل هنتغتون) المتطرفة(صدام الحضارات) فسعيد يرى” أنَّ فكرة التعددية الثقافية أو الهُجنة- التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم- لا تؤدي بالضرورة دائماً إلى السيطرة والعداوة، بل تؤدي إلى المشاركة، وتجاوز الحدود، وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة” والثقافة في منظور(علي حرب) خارج أوهام النخبة “بمعناها الأشمل، هي صناعة الحياة، والاشتغال على الطبيعة، وشكل من أشكال التواصل والتبادل”، ويمايز (ماثيو أرنولد) بين الفوضى والثقافة(1869) بكون الثقافة “هي محاولتنا الوصول
 إلى الكمال الشامل عن طريق العلم بأحسن ما في الفكر الإنساني ما يؤدي إلى رقي البشرية..”
 وهي نظرية مثالية غامضة تشبه مثالية فكرته عن الشعر الذي تنبأ له أن يكون بديلاً عن الدين والعلم معاً، فعلى العكس من ذلك نجد أنَّ الثقافة تنزل من عليائها التي رسمها أرنولد إلى العامة، فبفعل المتغيرات الاجتماعية التي تدعم قوة الثقافة الجماهيرية لم يعد للنخبة أو للثقافة الراقية أثر على المتلقين، بل إنَّ صناعة الثقافة صارت تهدف للتلاعب بوعي الجماهير للبقاء على هيمنة المؤسسات المسيطرة كما يرى أرثر أيزبرجر، وليس بلوغ الكمال المثالي، بمعنى آخر شيوع(الهيمنة) بدل الإرادة المستقلة، وهو المفهوم الذي يتجاوز في نظر وليامز للثقافة والأيديولوجيا بمعنى ما، لكنه أيضا يحيل إلى فكرة الاستلاب الأيديولوجية وصناعة الثقافة، وفكرة النسق والتورية الثقافية، وأنَّ الهيمنة بصورة ما؛ هي مجموع الشفرات الثقافية وآلية من آليات سلطة الخطاب، وهي المضاد الأيديولوجي ليوتوبيات التغيير والخروج على النسق، و(الهيمنة) تنسل في كل شيء، وسطوتها أكثر شيوعاً وأوسع فضاءً، وهي كما نرى في الإعلانات والثقافات الشعبية أكثر منها في الأدب والحقول الإنسانية، وذلك من
 خلال اعتمادها على ما يسمى(شهوة الاستهلاك) والهيمنة هي الآلية التي أطلقها(شيلر) على الثقافة “حيث تقولب الذوات البشرية تبعاً لحاجة نوع جديد من النظام السياسي” كما ورد عند تيري إيغلتون… وللحديث صلة….

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *