بدر شاكر السياب.. ما تبقى هو القراءة

بدر شاكر السياب.. ما تبقى هو القراءة
آخر تحديث:

علي حسن الفواز
ظل السياب لم يزل عالقا بذاكرة الحائط الشعري، وصورته تكبر كلما اتسعت خيانات الشعراء، وكلما ظلت وجوههم تبحث عن ما تحت قناعه الرمادي. في ذكرى رحيله الواحدة والخمسين يتحول الحديث عنه، وكأنه حديث عن قلقنا الشعري، وعن الأسئلة التي تخص لعبتنا الشعرية، التي لم تزل مباحة للإغواء، والإثارة، وللبحث عن وجوه أخرى لمغامراتها، إذ مازال الكثير من الشعراء لايثقون بحداثتهم، وبأسئلتهم، مثلما هم مذعورون من أوهام التاريخ، والمقدس، ولديهم هواجسهم غير الواضحة عن مايخص سرائر تلك الحداثة وجدّتها، والتوصيف غير البريء للشعراء الذين أطلقوا شرارة مغامرة الأولى بدءا من جبرا إبراهيم جبر وأدونيس والبياتي وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال ومحمود البريكان وبلند الحيدري..
قصيدة السياب قد تكون خارج هذا السياق، لأنها الأكثر براءة، والأكثر جرأة في آن معا، وهذا ماجعلها عرضة للمواجهة والضدية، مثلما جعلت من السياب ذاته أنموذجا لصورة الشاعر/ الأضحية، أو بوصف هذا الشاعر حامّلا لقصيدته لتكون تعبيرا عن وعيه القلق، وتمثلاته وهوسه الشخصي، وعن رهابه الداخلي إزاء الموت والتكرار والدوغما التي كانت تحاصر الواقع والأيديولوجيا..
كثيرون يقولون: ما الذي تبقى من السياب لنقرأه؟  وهل سنظل نستعيده بوصفه جرحا نرجسيا في الجسد الشعري العربي؟ وهل سنجعل قميص السياب الشعري قريبا من القميص اليوسفي الباعث على الرؤية، أو قريبا من معطف غوغول السردي الذي تخرج من سرائره الأسماء والمواجد والحكايات؟
هذه الأسئلة المريبة تفضي الى مقاربة وقائع مريبة، والى رؤى من الصعب تأويلها، أو وضعها في السياق المُحفّز على فعل القراءة، مثلما ستكون مدعاة لمواجهة إشكالات ثقافية معقدة، وأفكار تتعالق فيها أزمات الواقع، مع مؤثرات الصدمة المعرفية الانسانية، والتي يمثّل السياب بعضا من إرهاصاتها الشعرية، ومن تحولاتها الثقافية والسياسية والرسالية. ولعل علاقته بـ  (الشاعر) جبرا إبراهيم جبرا وبجماعة (شعر) وبأدونيس بشكل خاص تضع الكثير من علامات الاستفهام حول التشكلات المعرفية لتجربة السياب، لاسيما مايتعلق بالأساطير والمثيولوجيا، وهو ما بات واضحا من خلال قراءة السياب لكتاب (الغصن الذهبي) الذي ترجمه جبرا ابراهيم وانسحاره بعوالم هذا الكتاب، فضلا عن ماكشفته رسائل السياب الشخصية الى أدونيس، وحوارهما حول وظائفية الاسطورة في الشعر، واهتمامه بموضوعة الخلق والانبعاث، وثنائية الحياة والموت، وهو ما انعكس على عنايته بقراءة التجربة الشعرية الكبيرة لـ (ت. س. أليوت) واستغراقه في عوالمه الكئيبة وأساطير الموت.

السياب وسؤاله الشخصي..

موهبة السياب تمردت على قرويته، وقلقه الشخصي دفعه للمغامرة، وللبحث عن إشباعات حسية لم يجدْ سوى اللغة فضاء لتصريفها، مثلما وجد في بيروت المدينة الفائقة نوعا من الاغتراب الثقافي والمدني والحسي، والذي أربكه كثيرا، وأثار شجنه، ورغم خجله وشحوب عوالمه إلا أنه حمل سؤاله الفاجع باتجاه ترميم كل شيء يحوطه، بدءا من اللغة التي بدت أكثر تلوّنا، وأكثر غنائية، وانتهاء بجسده المسكون بالتشوهات والعلل، إذ بات هذا الجسد يحضر بشفراته في الكثير من قصائده، بوصفه الجسد الضحية، والجسد المغلول للعزلة، والجسد العاطل، والجسد الذي يعوي، الجسد الذي يستعيد تموز وروح الخلق للإيهام بالمعنى الفائق للوجود واللذة والبقاء..

ماتبقى سوى القراءة
 
قراءة السياب بعد أكثر من نصف قرن لايمكن أن تكون بعيون وقحة، أو بأسئلة تبدو أكثر عدوانية في نواياها، بل نجد أنفسنا أمام لحظة وعي قرائي يفترض جاهزية أدواته لمعاينة عميقة لجوهر فكرة التحول الشعري، فإذا كنّا لانجد غضاضة في الحديث عن علاقة قصيدة النثر العربية بترجمة كتاب سوزان برنار الموسوم ( قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا)، والحديث عن علاقة تجربة مجلة شعر بعوامل الترجمة والبيئة وتأثير النزعة الفرانكفونية، فإننا سنكون أكثر تحفظا عن عوامل محددة ارتبطت بها تجربة السياب، إذ سنجد أنفسنا أمام مجموعة من المعطيات السياسية والثقافية والأيديولوجية و(الوطنية) تلك التي تحولت الى عملية عصف وجودي أخذت من حياة السياب الشيء الكثير، مثلما هي تجربته السياسية والحزبية بشكل خاص التي جرّته الى أقصى درجات القلق والصخب والتمرد والإسفاف أحيانا، خاصة في كتابه المثير للجدل (كنت شيوعيا). عوالم السياب المربكة، وطفولته الشائهة، وأحزانه الشخصية، وجدت مع موهبته الشخصية تداخلا غرائبيا، وحساسية غامرة، تكشفت عنها تدفقات شعرية كبيرة لم تُقرأ للأسف بأدوات ثقافية ناضجة تناسب أسئلتها، إذ كثيرا مايكرر النقاد توصيفاتهم النمطية في قراءاتهم تجربته بوصفها استباقا للتحديث وللتجريب الشعري الجديد، أو بوصفها نوعا من التنازع مع تجارب شعرية عربية أخرى بعيدا عن مقاربة حمولاتها الفنية العميقة..فعل القراءة هو ماتبقى، لكنها القراءة المحايدة، القراءة (العاقلة) التي لاتخرج بأوهام نقدية، ولا بـ (قرارات) تضع السياب في التقليد، بقدر ماتسحضره كأنموذج برومثيوسي لسارق نار الآباء العالقين بالتاريخ.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *