بغداد وأربيل: التعايش الصعب والطلاق الممنوع

بغداد وأربيل: التعايش الصعب والطلاق الممنوع
آخر تحديث:

 بقلم:جوان ديبو

منذ أن أجرى إقليم كردستان العراق استفتاء الاستقلال في سبتمبر 2017، لم تأل الحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد جهدا في السعي  لمعاقبة وتوبيخ الإقليم وتجريد مؤسساته بشكل مبرمج وممنهج من الصلاحيات الموكولة إليها منذ 1991 وصولا إلى عام 2003، وكذلك استنادا إلى الدستور العراقي المعمول به منذ سنة 2005. وبالتالي تحول تاريخ ذلك الاستفتاء إلى علامة مفصلية في العلاقة المأزومة والملتبسة أصلا بين بغداد وأربيل.القرار الأخير للمحكمة الاتحادية العليا في بغداد والقاضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان الصادر سنة 2007 وإلغائه وإلزام حكومة الإقليم بتسليم ملف إنتاج وتصدير الغاز والنفط إلى بغداد يأتي ضمن هذا السياق.

القرار، وفق المتنفذين في بغداد، يعتبر ضربة استباقية ضد الإقليم لإحباط جنوحه الاستقلالي ومساعيه الدؤوبة لتطوير وتعديل صيغة الفدرالية الحالية ربما أملا في الوصول إلى ما يشبه الكونفدرالية أو حتى الاستقلال وفق خطة تدريجية هادئة وغير عنفية.ويأتي القرار الأخير ضمن سياسة استراتيجية تم الإعداد لها مسبقا وبتأن في بغداد لإحكام حصار الإقليم اقتصاديا وسياسيا وإداريا وثنيه عن التفكير مجددا في الاستقلال وكذلك بغية انصياعه غير المشروط للمركز، خاصة وأن عائدات النفط والغاز الكردستاني تعتبر العصب الرئيس الذي من شأنه بعث الروح وضخ الحياة في شرايين دولة كردستان المأمولة كرديا والمرفوضة من قبل بغداد وكذلك طهران وأنقرة ودمشق.

وبذلك تتجاوز أبعاد وتوقيت ودلالات القرار الأخير نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة والاصطفاف الحزبي الناجم عنها. وتهدف هذه السياسة إلى التجريد التدريجي للإقليم من صلاحياته وسلطاته وخصوصيته والتعامل معه كأي محافظة عراقية أخرى الأمر الذي لا يستسيغه، لا التاريخ ولا الحاضر بحقائقهما ومعطياتهما الدامغة والغزيرة والوفيرة.فإقليم كردستان العراق يتمتع بالحكم الذاتي الكامل الذي يكاد يلامس تقريبا وضعية الكونفدرالية منذ 1991، وبالتالي من الطبيعي أن يبحث قادته على تطوير الصيغة الراهنة وصولا إلى الكونفدرالية الرسمية أو حتى الاستقلال. بينما يتحرك بعض أسرى أفكار الماضي البغيض ومنفذي الأجندات الإقليمية في بغداد في الاتجاه المعاكس تماما حيث يسابقون الزمن من أجل تفريغ فدرالية الإقليم من مضمونها والتعاطي معه كأي محافظة عراقية أخرى والتغافل عن حقائق التاريخ والجيوسياسة.

وكل ذلك كمحاولة من الحكام المتعاقبين في بغداد في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال إعادة النظر في النظام الفدرالي الحالي برمته والتشكيك في جدواه والادعاء بعدم مواءمته للعراق بحجة أنه يغذي النعرات الانفصالية (الاستقلالية) لدى الكرد وفق تأويل غلاة الساسة والقادة الطائفيين، وليس الوطنيين، في بغداد. وهذا ما يتجسد في طغيان ظاهرة التفسير والاجتهاد الأحادي الجانب لبعض البنود الجوهرية في الدستور العراقي بما يخدم توجهات وأجندات المتشددين في بغداد وغير البعيدين عن المؤثرات الإقليمية.ولا يُستبعد في هذا الإطار، أن يعمد بعض المتشددين في بغداد إلى طرح مقترحات تفضي إلى تقويض النظام الفدرالي للانتقام من الإقليم. وهذا ما تسعى له أيضا كل من طهران وأنقرة ودمشق تفاديا لظهور تجربة كردستان العراق في أجزاء كردستان الأخرى الملحقة بتلك الدول. هذه العواصم الثلاث، بالإضافة إلى بغداد، التي يجمعها قاسم مشترك واحد وهو محاربة ووأد التطلعات الاستقلالية للكرد في جميع أجزاء كردستان الأربعة، وخاصة في إقليم كردستان العراق لأنه الأقرب إلى تحقيق هذا الحلم الذي يراود مخيلة أكثر من 40 مليون كردي ويدغدغ مشاعرهم.

البون شاسع جدا بين نوازع بغداد وأربيل عندما يتعلق الأمر بحاضر ومستقبل الإطار الإداري والقانوني والدستوري لإقليم كردستان. فبغداد تسعى جاهدة لإفراغ محتوى الفدرالية الحالية من مضمونها والتعامل مع إقليم كردستان كأي محافظة عراقية أخرى استنادا إلى التفسير والاجتهاد الأحادي الجانب لبعض بنود الدستور العراقي. بينما يستبسل قادة الإقليم أولا في سبيل تمتع الإقليم بكافة صلاحياته وخصوصيته، أيضا، استنادا إلى الدستور العراقي، بالإضافة إلى محاولة تطوير الصيغة الحالية للإقليم وصولا إلى ما يشبه الكونفدرالية أو حتى الاستقلال.الذرائع التي يروجها بعض القادة والمسؤولين في بغداد لتبرير عدائهم للإقليم وتجريده من سلطاته وصلاحياته منذ محاولة الاستقلال في 2017 لا تستقيم مع المنطق والعقلانية. مثلا، منذ تاريخ استفتاء الاستقلال في سبتمبر 2017، تجاهد بغداد لاختزال النزعة الاستقلالية العارمة والمتجذرة في الإقليم في شخص رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس الإقليم الأسبق مسعود بارزاني، علما أن هذه الحجة الواهنة تجافي نتائج الاستفتاء التي كشفت أن 92 في المئة من المقترعين قد صوتوا لصالح الاستقلال.

هناك ذريعة أخرى لطالما ساقتها بغداد ضد قادة الإقليم لتبرير عدائها السافر لاستقلال الإقليم وهي أن العائلة البارزانية الحاكمة، ومعها إلى حد ما عائلة طالباني في السليمانية، تسعيان لإعلان الدولة المستقلة للاستئثار بموارد إقليم كردستان النفطية وغيرها. ويتهم حكام بغداد قادة الإقليم بالفساد والاغتناء والكسب غير المشروع. هذا الكلام يبعث على السخرية لأن معظم المسؤولين والقادة والساسة في بغداد منغمسون في الفساد من قمة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم. وبالتالي، من كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة. اتركوا فساد الإقليم للإقليم وقادته وشعبه وانشغلوا بفسادكم فقط. على الأقل، جزء من أموال الإقليم خصصت وتخصص لتشييد البنية التحتية والنهضة العمرانية وبقية الخدمات، بينما تفتقر معظم مدن العراق بما فيها العاصمة بغداد إلى العديد من الخدمات الأساسية التي يتمتع بها الإقليم منذ سنوات.

من الصعب جدا التنبؤ بما ستؤول إليه التطورات بصدد طبيعة ومآلات العلاقة المستقبلية بين بغداد وأربيل. لكن ما هو بديهي ومصيري وحاسم في هذا السياق هو ضرورة البحث بشكل طوعي وسلمي وحضاري عن شكل وصيغة جديدة للعلاقة بين بغداد وأربيل تأخذ بعين الاعتبار التحفظات المنطقية للجانبين والتطلعات المشروعة لشعب إقليم كردستان. فمن شأن ذلك أن يختصر الكثير من الوقت للجانبين، ويوفر إمكانيات وجهود الطرفين ويمنع تبددها في تناحر وتطاحن عبثي، ويبخر التوتر الكامن والظاهر، ويقدم نموذجا حضاريا يحتذى به، إما في التعايش الطوعي أو في الطلاق الهادئ البعيد عن الصخب والاستقطاب والتجييش الإعلامي والقومي والطائفي والعنف الذي سيكتوي الجميع بناره وسيخسر فيه الجميع ولن ينتصر فيه أحد سوى الواهمين.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *