بلينكن الذي جاء ولم يأت

بلينكن الذي جاء ولم يأت
آخر تحديث:

بقلم: علي الصراف

بين يوم والذي تلاه، أعادت السعودية لفت الانتباه إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يرسل حتى الآن وزير خارجيته إلى السعودية، حتى بعد مرور عام ونيف على توليه إدارة البيت الأبيض.وما لم يكن ذلك إعلان قطيعة دبلوماسية مع حليف، فلا حاجة لأي قطيعة، تحفها أسباب كمثل أسباب بايدن.قالت السعودية في يوم إن أنتوني بلينكن سوف يزور السعودية لمتابعة النقاش الإيجابي حول العلاقات بين البلدين. ولكن لم تمض 24 ساعة على هذا الإعلان حتى صدر إعلان آخر يقول إنه لا يوجد موعد لهذه الزيارة.

تعرف السعودية على أي حال أن تحالفها مع الولايات المتحدة أعمق من أن يهدده رئيس لن يدوم في سلطته طويلا، وسرعان ما سوف يتحول إلى “بطة عرجاء” في نوفمبر المقبل عندما تجري الانتخابات النصفية إلى الكونغرس فيخسر أغلبية حزبه في المجلسين.لا ترغب الرياض، لأسباب محافظة، أن تكشف عن أسباب الخلاف بينها وبين إدارة الرئيس بايدن. وليس من طباع الرياض أن تكشف عمّا يعتمل في النفس بينها وبين الدول الكبرى عامة. إلا أن خوض النقاش مفيد. السلبي منه، خاصة.مقتل جمال خاشقجي يبدو وكأنه قضية كبرى. ولكنها ليست كذلك بالفعل. تاريخ الولايات المتحدة مليء بالجرائم. إنها مجرد ذريعة لتغطية عداء مضمر للسعودية ظل ينمو في الولايات المتحدة على امتداد عدة عقود.

وفي هذه القضية بالذات، فقد انجرت السعودية إلى خوض النقاش فيها انجرار الذي لا يريد التحدث، فأجبرت عليه، وخسرت المعركة الإعلامية بسبب الخشية من التقحم المطلوب في إدانة الجريمة، وتقديم الدليل على أنها خطيئة فردية وليست منهجا.“معاداة السعودية” تحولت إلى منهج أيديولوجي لا يقتصر على الديمقراطيين، ولكنه يمتد إلى بعض القادة الجمهوريين أيضا.

أحد أسباب هذا المنهج هو أن التحفظ السعودي التقليدي لا يميل إلى الكشف عما يعتمل في النفس. السبب الآخر، هو مشاعر الضعف حيال حليف “قوي” و”استراتيجي” و”قديم”. السبب الثالث هو أن الإعلام الرسمي السعودي فاشل. وهو يفرض قيودا زائدة عن اللزوم على شقه غير الرسمي. وبرغم الكفاءة المهنية العالية التي يُظهرها صحافيون وقادة إعلاميون غطسوا بكل أشكال الخبرة وسعة المعرفة الإعلامية، إلا أنهم عجزوا أن يخرقوا السقف الزجاجي الذي يقف فوق رؤوسهم وكأنه الساطور.راهنت السعودية لتقليص أثر الحملات المتوالية ضدها، على شركات علاقات عامة في واشنطن، أكثر مما راهنت على قدرات إعلامها الخاص بالذات.

لا يصح، لأسباب تتعلق بالكثير من الاعتبارات والموازين أن تتحول “القطيعة” الدبلوماسية إلى حرب مكشوفة. لسببين على الأقل:

الأول، لأنها ستكون حربا خاسرة سلفا، بالمقدرات الراهنة.

والثاني، لأنها سوف تصب الماء في طاحونة أيديولوجيا “معاداة السعودية”.

إلا أن السبب الرئيسي الأهم، هو أن الولايات لم تخسر مكانتها كقوة قائدة لنظام دولي عنيد.

هذه القوة، ما تزال قادرة على أن تُحبط أي مسعى لتحديها. وهي ليست وحيدة في ذلك، إنما تتبعها قوى عظمى أخرى.

ولقد أثبتت حرب روسيا في أوكرانيا أنها أفشل من أن تؤدي إلى تغيير النظام الدولي القائم.يملك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الكثير مما يستعرض به عضلاته من الأسلحة، إلا أن أقدامه الاقتصادية خاوية، ومفاصله ترتعش في البنوك وفي الصادرات.النظام الدولي إنما هو ما تعنيه القوة الاقتصادية. وهو قادر على أن يُنفق على نفسه التريليونات من الدولار، من دون أن تظهر عليه علامات الإجهاد.الصين نفسها ليست في موضع التحدي. قوتها الاقتصادية، كمثل القوة الاقتصادية الروسية الغابرة، قائمة على عائدات من العالم الذي تقوده الولايات المتحدة.هذا يعني أن السعودية ليست بحاجة إلى أن تقع في فخ الغطرسة، ومشاعر القدرات الزائفة على خوض التحدي.هناك قضايا يجدر خوض النقاش فيها، من دون أن يُطلق المرء النار على قدمه.”معاداة السعودية” تحولت إلى منهج أيديولوجي لا يقتصر على الديمقراطيين، ولكنه يمتد إلى بعض القادة الجمهوريين أيضا لقد خاضت ألمانيا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب نقاشا عصيبا حول العديد من القضايا، بل وتبادلا التهديدات بفرض رسوم جمركية على سلعة وأخرى، إلا أنها لم تزعزع أسس التحالف.

فعلت فرنسا الشيء نفسه مع إدارة الرئيس بايدن عندما أعلن تحالف إيكوس مع بريطانيا وأستراليا. واضطرت باريس أن تبتلع خسارة تقدر بنحو 90 مليار دولار في صفقة الغواصات الملغاة مع كانبيرا. ولكنها لم تصمت. بل لم تترك وصفا من أوصاف الخيانة إلا وأطلقته على إدارة الرئيس بايدن.ما يهم في المسألة هو أن الصمت مؤذ. إنه إشارة ضعف ليس ثمة ما يبرره.الحليف القوي يحب، بحسب طبائع النفس البشرية، أن يختلف مع حليف قوي، فيشعر أن الاتفاق يزيدهما قوة.هذا هو بالضبط ما تفتقر إليه العلاقات بين الرياض وواشنطن. وهذا هو بالضبط ما يجعل وزير الخارجية الأميركية يروم أو يُدعى إلى المجيء ولا يأتي. وهذا هو بالضبط الذي يجعل السعودية وكأنها أقل وزنا في أعين الذين يستهينون بمعاداتها أو يستخفون بالتحالف معها.

السعودية قوة إقليمية كبرى، ليس فقط لأنها أحد أكبر منتجي النفط في العالم. إنها قوة قائدة في بيئتها الإقليمية أيضا. ويمكنها أن تغير بالفعل بعض المعادلات الإقليمية عندما تختل فيها الموازين. ويمكن للرياض أن تكون لاعبا مؤثرا لتغيير الوجهات في غير مكان. في تونس، في ليبيا، في السودان، في العراق، في سوريا، في الصومال، يمكن لدور إقليمي نشط أن يقول لواشنطن إن ما تعجزون عن فعله يمكن لحليف موثوق أن يحققه.هذا الدور يمكنه أن يشكل ركيزة من ركائز التعاون الاستراتيجي بين البلدين. وهو ركيزة ثقة بالنفس أيضا.

نعم، لا تستطيع المؤسسة الرسمية أن تدين الهروب الأميركي من أمام الميليشيات الإيرانية في العراق، أو التخاذل حيال الأعمال الإرهابية التي تشنها جماعة الحوثي. إلا أن الإعلام غير الرسمي يستطيع.ولكن خيانات عريضة للثقة، من قبيل العودة إلى الاتفاق النووي، على أساس مخاوف زائفة، ورفع اسم الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية، يمكن أن يكون هو النقاش السلبي الذي يتعين العثور في خضمّه على متغير إيجابي.التحالف الاستراتيجي الحقيقي يقوى بالخلاف! ساعتها سوف لن يترك وزير الخارجية فرصة تفوته لكي يأتي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *