سحر القصب:راءة في رقصة المـــاء

سحر القصب:راءة في رقصة المـــاء
آخر تحديث:

بغداد: شبكة اخبار العراق – في حوار مع الفنان الفوتوغرافي ( أنطونيو سونتيرو) وهو سليل بيئة مياه (البندقية/ فينيسيا ) والذي سحرته بيئة الأهوار العراقية من خلال صور الفنان (إحسان الجيزاني) ولهفته لرؤيتها، والتقاط صور عن كل ما يراه من سحر مكوناتها. قلت وأنا أذكره أيضا بما قاله (صموئيل نوح كــريمر)؛ لو انزاحت المسطحات المائية في جنوب العراق، لظهرت كنوز الكون. وسألته: ما الذي تلتقطه؟ فسحرها يوسم كل جزء في فيافيها المائية. سحرها أزلي، وممتد منذ العصور القديمة. قد تتيه في لجة وطغيان الدهشة، أو يأخذك مشهد العلاقة بين الماء والجسد، وأقصد بذلك الجسد الأنثوي المتمرغ بفوح مياه الهور، وفضاءاته الممزوجة بعطر القصب والبردي. تلك النكهة الفريدة. الخضوع للدهشة الأولى إنها علاقة جمالية ضمن بيئة الأهوار، لاسيما بين جسد المرأة وما يمتلكه من مرونة مقابل بساط الماء اللين، الممتد إلى ما لا نهاية، المرأة وهي تجذف معتليه صهوة الزورق الغارق في الماء. فالفنان يتعامل مع الجسد الأنثوي تعاملا تفرض عليه سمات مكونات الطبيعة، والبيئة، وبفعل دور المرأة في المجال الاجتماعي والأسري والاقتصادي. لذا نجده حين يلتقط صورة لها، تختلط في فعل التصوير نتائج، هي خليط من العفوية في الاستجابة، أي الخضوع للدهشة البصرية الأولى. أو أنه يستجيب للجواني من رؤيته وأحاسيسه، متذكرا رقصة الباليه. وفي كلا الحالتين أو الاستجابتين؛ نكون أمام منتج يحتمل القراءة، لأنه يخضع بطبيعة الحال إلى المكون المعرفي والحسي للرائي. وهذا ما حصل مع صورة أنتجتها عين عدسة الفنان الراحل ( عادل قاسم) لامرأة من بيئة المياه، وهي تقود زورقا  كبيرا  محملا بالـ (بوه) وهي عيدان من الحشائش الدقيقة المتشابكة مع بعضها، بما يشبه النسيج العنكبوتي. المرأة بالتأكيد من حصد هذا الكم من الحشائش، وهي أيضا  وحدها رصفت أكداسه داخل حوض الزورق، وثبتت أركانها بالحبال وأعواد البردي التي بليونتها تغدو رابطا  تتعامل معها المرأة بفنية وتقنية حرفية عالية ومتقنة، بحيث لا تترك مجالا لتبدد الكدس العالي المالئ حوض الزورق. كل ما يتبقى هو قيادته. أداء مسرحي صامت وهنا تتركز قراءة الصورة، بعد تهيئة ما هو مكمل للمشهد في عكس المحتوى فيها.  ديمومة سير الزورق تتطلب سير المرأة على حافته المحاذية للماء، ثم البدء بالدفع، والعودة من جديد. وهنا لابد من متابعة كلتا الحركتين المكملتين لبعضهما، بما يجوز لنا وصفها بـ (رقصة الماء) فالصورة توحي بالشيء، والقراءة من يفك أسرارها. المرأة تسير على حافة الزورق برشاقة مدهشة، يكمل رشاقتها الجسد الطويل والمتراص، الملفوف بالعباءة السوداء، والمربوطة على الخصر، بحيث يبدو الجسد ابتداء من الكتفين المتكورين، مرورا  بالظهر والوسط، ثم الردفين والساقين. هذه المكونات للجسد وهو يفعل نشاطه وقدراته بالسير المتوازن، ضمن زورق قلق السير، مغمور في ليونة الماء وسكونه. كل هذا يترك انطباعا  بصريا، بأن الذي نشاهده بمثابة أداء مسرحي صامت، أو رقصة الباليه على الماء، إنه يستعين بالجسد للتعبير عن مكنوناته، ويفعلها لتكون مقتدرة الأداء.  وأرى مجازا افتراضيا ؛ أن هذه الحركات المتغيرة في السير الحذر؛ هي التي أوحت بفكرة الاستعانة بالجسد في الأداء المسرحي، واعتباره لغة بليغة، قد تعجز مفردات الكلام التعبير عنها، فبمثل انفعالات الجسد على المسرح، تكون المرأة مشدودة للمحافظة على هذا التوازن، لكي ينساب الزورق بتلقائية وضمان وصول. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لكي تكتمل هذه الحركة بالتي تليها، وهي لحظة وصول المرأة إلى حيزوم الزورق، فإنها تثبت المردي في قاع الماء حتى يصل قعر الطين. وهذا يتطلب جهدا من الجسد لكي يحكم الدفع. في هذا ينحني الجسد رويدا .. رويدا نتيجة الدفع حتى تدرك المرأة وصول رأسه الأسفل إلى الأرض. صورة بليغة وهذا الجهد الذي يولد الانحناء يمنح الرائي قوة في المشهد نتيجة بروز كل معالم الجسد، وانحناء الجذع، وتحول كل معالمه نحو نقطة واحدة. بعد مسير الزورق مسافة، تدرك ذلك وبسرعة استلال المردي من قاع الماء. وهذا يتطلب صورة أخرى للجسد وبأداء جديد. فاستلال المردي، يتوجب رفعه بقوة مضاعفة، هي قادرة عليها بفعل الدربة اليومية، كذلك تغيير شكل الجسد والعودة إلى الاستقامة مرة أخرى، ولكن هذه المرة يظهر شامخا.  حيث يندفع الرأس المؤطر بالعصابة إلى الأعلى، ويندفع الصدر الناهد إلى الأمام، فيغدو الجسد كعلامة استفهام محورة. أي اندفاع الأعلى وسكون الوسط، واندفاع المؤخرة إلى الخلف. وهذا بحد ذاته يعطي صورة بليغة في الأداء، تـدهش الرائي، وربما أدهشت المصور وهو يدقق في كل هذه التوصيفات، فأنتج صورة قابلة للقراءة الواسعة نوعا ما.  لقد استفاد الفنان من هذه الصورة أو غيرها لترسيخ انطباعاته المختلفة والمتنوعة والمغتنيه من تجربة المشاهدات المكثفة، وهذا بطبيعة الحال يساعد على إنتاج صورة متحركة في بنيتها الداخلية، بالرغم من أن إطارا يلمها، وسكونا يتخللها. لكن الصورة بطبيعة الحال محفزة للرائي في الحفر بمحتوى ذاكرته من مشاهدات، وما تركته تلك المشاهدات من أثر بليغ .

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *