سركون بولص ..انطباعات في تجربته القصصية

سركون بولص ..انطباعات في تجربته القصصية
آخر تحديث:

 باقر صاحب
تثير «عاصمة الأنفاس الأخيرة» المجموعة الضامّة لقصص سركون بولص جميعها وعددها ثماني عشرة قصة، كما ورد في إشارة الناشر، دار الجمل، في نهاية الكتاب، تثير الفضول لقراءتها من عدة نواح، أولا: إنها تمثل المنجز السردي لأحد ألمع الشعراء العراقيين والعرب ممن برزوا في قصيدة النثر أيضا. ثانيا: رصد التأثير السردي في الشعر، عند مبدع كتب باقتدار في
الجنسين.
إن استباق الشعر بكتابة القصة، بالتأكيد سيكون له الأثر في توغل آليات السرد في شعرية سركون بولص، ويقول الشاعر والناقد العراقي محمد مظلوم  في تحليل عميق لتجربة سركون بولص:»كان دائماً ثمة قصة خلف بلاغة الشعر، بلاغة أخرى استعارية وتأويلية مضمرة، أو هي معنى المعنى على تعبير الجرجاني، إنها تلك البنية التي تمنح القصيدة وحدتها
 الموضوعية».
أمكن لنا في هذا الحيز قراءة ثلاثة نماذج من قصص سركون بولص، ارتأينا بحسب قراءتنا الانطباعية هذه أن هناك اختلافات نسبية بينها، من ناحية بؤرة الحدث والزمان والمكان، ومن ناحية تفاعل أبطال هذه القصص مع معطيات
 أحداثها.على سبيل المثال، تتناول قصة (رغبة حرة) رجلا يشعر أنه مقيد عن القيام بأفعال بسيطة ولكنها حرة، لا يستطيع كسر نمطية اليوم الذي يعيشه، لا يكسرها إلا بالافتعال، بتصنع المرض، كي يخرج من دائرته، مثلا، وبهذا وئدت الرغبة الحرة، في أن يكون وفق سليقته، طبيعته الحرة، إذا بطل القصة يعاني الفراغ واللاجدوى، ووأد الرغبات، يتمارض بوجع أسنانه، ويترك الدائرة، فيلجأ إلى ضفة النهر،  فيحسد صاحب زورق على الانطلاق به في النهر والعودة به كيفما
شاء.
ثيمة النهر تتكرر في عديد قصص سركون بولص، وهو ما انتبهت اليه أيضا الناقدة العراقية فاطمة المحسن قائلة: «فثمة نهر أو بحر يقصده البطل كي يرى الضفة الأخرى من عالمه، وكلها تبدو وكأنها فاصلة في مشهد التوق الى الانعتاق من
 المكان.»
أما قصة (الكتلة والعلبة) ففيها  مقاربة من الالتزام مع المجموع، وهذا سر اختلافها،  إذ ينخرط ادمون بطل القصة، في مظاهرة ضد الوضع السياسي القاتم آنذاك في الستينيات، اشترك فيها نساء وشباب ورجال من مختلف الأعمار. أدمون أدرك أنه في لحظة تحول الآن، لا سيما بعد أن قمعت المظاهرة، وهرب الحشد في جهات مختلفة، هو أيضا هرب تتضارب فيه المشاعر بين أن ينجو بنفسه، وأن يتضامن ويطمئن على مصير الكثيرين، خصوصا شابين أحدهما أصيب والآخر ذراعه مجبرة، نهاية القصة تنبئ أنه خرج من فرديته، وأنه تحرك وهو ثالث
 ثلاثة.
انظر هذه النهاية الجميلة للقصة، فهي ذات مسحة شعرية (وبين الاثنين، كان الظل يفقد تأثيره ومعناه، كانا هما اللذان يسببان حركته.أصبح واعيا بهذا وهو يركض– وعيا ابيض عميقا يحتضن الحوض كله، والجسر البعيد الذي أوقظه الضوء، وكان الثلاثة يركضون نحو النهر الذي لا يتوقف عن الجريان): ص66
 (عاصمة الأنفاس الأخيرة) القصة الوحيدة، التي حدد فيها سركون بولص مكان الحدث، ألا وهو العاصمة بغداد، كما أن راوي القصة لشغفه بعوالم بغداد، يسميها (القلب الكبير الأوردة).
ورغم أنها كتبت في تسعينيات القرن الماضي، الا أن أجواءها ستينية أيضا، تدلل على حيوية ذاكرة سركون بولص في الانتهال من تجربته الحياتية في تشكيل قصصه قبل رحيله إلى المنفى من دون
رجعة.
تبدأ القصة بسفر بطل القصة  يونس مع أبيه إلى بغداد، هي زيارة قصيرة، سرعان ما يعود إلى بغداد، سائحا في صباحاتها وولعا بنهر دجلة،  ليسرد طوافه في تلك الأيام بين بيت أم رؤوف حيث يسكن في غرفة صديقه الغائب، وعلى النهر أيضا، مشدوها بجماليات الصباح البغدادي، ليبقى ثلاثة أشهر في العاصمة، وهي القصة الوحيدة التي فيها تحديد زمني. وبرحيله تنتهي
 القصة.
يعكس سركون بولص أجواء الستينيات حيث المثقفون المعارضون للسلطة الغاشمة آنذاك يمارسون التخفي عن عيون
 أزلامها.
يتذكر يونس كيف أن رؤوف أخرج قصيدة من جيبه في (بار) وأخذ يقرؤها على سمعه بصوت واطئ للتدليل على الأجواء البوليسية آنذاك، ومع ذلك تكتنف يونس الحيرة من عدم معرفته الأكيدة لسر صديقه الغائب، وهي حيرة يريد القاص أن تكتنفنا أيضا عن ملامح البطل الثوري، يقول (تصور وجه صديقه الناحل المفرغ من الحيوية بعد سلسلة من الاعتقالات والتدريس في قرى ناحلة، وشعره المفروق على صلعة مبكرة (كان يعرف  من أحاديث أصدقاء آخرين انها نتيجة نوع من التيفوس أصيب به في أحد السجون)): ص13.
إن انحسار زمن كتابة هذه القصص على  العقد الستيني، ماعدا قصة (عاصمة الأنفاس الأخيرة)، يسهل أيضا دراسة مزاياها وكشف خباياها، فهي وفية لأجواء القصة الستينية العراقية، خاصة  والأدب الستيني عامة، التمرد والهروب الفرديان، التوحد والانعزال عن الآخر، الخيانة

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *