على طلول الثمانين بقلم رباح آل جعفر

على طلول الثمانين بقلم رباح آل جعفر
آخر تحديث:

كنّا في مقتبل العمر ونحن نتمرّن بحكم العابر على هموم الثقافة حين بحثنا عن كتبه ومقالاته. عن بصماته وقسماته. عن حروفه وكلماته. فوجدناها أشبه بمنشورات سريّة. اختلفنا مع كثير من آرائه ومواقفه. لكننا احترمنا أسلوباً فخماً من أجمل الأساليب العربية.

يعشق بغداد العباسية، ويبوح أسراره إلى أرملة أبي جعفر، ويؤمن أن دجلة نهره الخالد. يتمنى لو يعانق ضفافه السمراء، ويجعل من أمواجه بساطاً أخضر مثل بساط الريح، وينام على أجرافه مثل راية أرهقها عراء هذا الزمن، ويشتد به الحنين إلى الكرخ ودرابينها، ويشتاق إلى شجرة نارنج تنتظر تحت افيائها المواعيد. يقفز من ساقية إلى ساقية، ويعبّئ جيوبه بالغيوم، وتموت منه الأغاني بمرارة الخيبة، وألام الوحشة لذكريات جفاف. فيلوذ بحطام جدران، وحطام ذكريات، وحطام أصحاب، ويخطّ ويمحو الخط بكآبة عاشق تركته حبيبته، ويبكي على بيوت الآباء بالعلياء فالسند، ويحصي قبور الأجداد في كرادة مريم بكاء طفل فقد أمه. لم تبق منها إلا بقايا من صور جار عليها الدهر بكثير من الخراب.
حسن العلوي، أو بقيّة الصوت البغدادي. لا زال يحلم أن يركض إلى جرف النهر، مدججاً بأيام العمر الآفل، ويبني عشّ عصفور مع الفجر على نافذة في بغداد إذا عزّ مع الفجر لقاء، وعزّ مزار، وعزّ حبيب. يتعب من البوح فيستريح.. في قلبه دفء حلم، وفي عقله الهام فكرة، وفي ضميره كرامة مشروع عربي من طنجة إلى رأس الخيمة. نصفه بوهيمي ونصفه الآخر ينتمي إلى الواقعية. ينادي برأي مختلف عن رأي الجماعة خارج المألوف والمعروف، ويرشّ الملح في الجروح، ويستسقي سماء لا تستمطر، ويعيش خارج زمانه ومكانه، ومن حوله الضجيج والعجيج.
إنه في مباراة لا تنتهي بين “السياسي” و “الصحافي”. جاء إلى السياسة من دنيا الصحافة، واحترف الصحافة في دنيا الأدب. وإذا كان العلوي أخفق في تحقيق أحلام السياسي الطموح المتطلع، فإنه نجح في تحقيق أحلام الصحافي الجسور المندفع. الكتاب قطعة من حياته. ولعلّه الكاتب العراقي الوحيد يعيش من كتاباته. يشتهي الوطن والوطن مذبوح، ويحلم بمستقبل لن يدركه زمن.
والعلوي صيّاد مغامر يبحث عن اللؤلؤ في القاموس، ويسفح العقيق من المعاني، وينتشل البللور من الشعر، ويغزل الزرقة في البحر مثل سندباد. في زمن تسلل من النافذة ألف ألف سندباد مختبئ وراء قناع، وألف ألف سندباد مزيّف. لا أبحر، ولا رأى البحر في حياته، ولا ذاق طعم الموج، ولا عصفت بسفينته الريح، ويجلس على الضفة الأخرى يتحدث إلى الناس بقصص وملاحم عن أهوال الرحلة، وعذاب إعصار البحار.
وأمس هاتفني الصديق الأستاذ حسن العلوي مبتهجاً انه انتهى من الوقوف على طلول الثمانين قبل أن يحلّ موعد الرحيل، ويكون الختام في النهاية جنازة. ليترك للجيل الآتي قارورة عطر في دكاكين العطور.
العلوي كتب السطر الأخير في كتابه (رسوم الذاكرة.. على طلول الثمانين). يحكي سيرته الذاتية ومواقفه السياسية والأدبية. وأنا أعرف أنه لا زال يحتفظ في ذاكرته بجزء من (الصندوق الأسود) لمرحلة سابقة كانت مزدحمة بالحوادث وكان هو في قلبها. كتاب مذكراته أشبه بإعادة كتابة التاريخ. العلوي هو نفسه تاريخ. إنه باختصار: كلمة تبحث عن وجودها على الورق.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *