قراءة في قصيدة الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير «حدث هذا»

قراءة في قصيدة الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير «حدث هذا»
آخر تحديث:

أحمد فاضل

« لا لَمْ أتفاجأ بالأبيض
لا بالسماء ولا بالجناح ، لكنها نافذتي
وها هي بغداد «
أستطيع ان أتخيل الشاعر وهو يفتح نافذته المطلة على دجلة لينظر بغداد نظرة محب يحاول تفحصها من أول شروق شمسها حتى آخر غصن كالبتوس عانق سعف نخيلها ، وقبل أن أسوح في القصيدة لا بد من تذكير أن الذي يكتب عن مدينته بعد رحيله عنها أكثر من 30 سنة ، ليس كالذي عاش معها وقريبا منها ، فالحنين لا يمكن القبض عليه بسهولة ولا يستطيع أحد تصوره ، فدمعة واحدة حرى تكفي كي تقول كل الذي تختزنه الذاكرة وتبوح بها النظرات ، والقصيدة عند الشاعر عبد الأمير كما وجدتها هنا ليست لغة وإحساس وإبهار وبناء جملة فقط كما يقول أدونيس ، بل ولادة متعسرة ، تشبث بالحياة ، مدلولات لمعان مخبوءة قد تتجاوز حدود خيالنا ، إنها انسكابات جامحة لروح الشاعر نقل عبرها أحاسيسه في بناء جملته الشعرية بيتاً بيتاً أعطانا من خلالها عاطفته ، أفراحه ، أحزانه وكل ما تركته الأيام فيه ، مع دقة بالتعبير الذي دائما ما يجلب المفاجأة ويثير الخيال ، هو هنا لديه القدرة على التحدث دون توقف ، الجملة الشعرية لديه قابلة للتمدد والاختزال كيفما أرادها :
أجل
حدثَ هذا وكأنّ الجغرافيةَ هرّةٌ حاملٌ
ولّدتْ للتو ، توائمَ بيضاء وزرقاء تتقافزُ
كموجاتٍ تحت أقدام سريري ..
أما أنا ، فلم أخلطْ قط
بين الوسادة البيضاء وجناح النورس
لكنني اتساءلُ
بثقةِ مَنْ يغلقُ بابَ غُرفتهِ وستائرَها
قبل ان ينام
كيف تمسحُ إرتجافةُ جناحٍ
فوق دجلةَ ،
دموعَ قتيلٍ يسقط الآن ..
هناك صلابة واضحة في حروفه المتحركة وهو يتناول تلك المشاهد من على شرفته ، فكل شيء لديه يراه بفؤاده قبل عينيه وكأن كل أحزان بغداد أطلت من هذا المكان الذي يقف فيه لتعوم فوق دجلة :
ألتحفُ بكل الكتب المقدّسة والملاحم والأساطير
وأرى بأُمّ عينيَّ دجلة هذا يجرجر بقدميه الداميتين
عُصوراً وعُروشاً
ويصبُّ مثل مزرابٍ عظيمٍ
فوق المعبدِ الاوّلِ الذي صالحَ البشريّةَ
مع الموت ..
وإلاّ ،
كيفَ تمشي وراءَهُ في خشوعٍ
حشودُ الميتين ِ والغائبين
من أَهْلِ هذي البلاد يتقدّمُهم انبياؤُها المصطفون ..
هناك تفاصيل لهذا الألم يمر عليها الشاعر هنا وهو يستعرض صفحات غائرة في القدم من « كتب مقدسة وملاحم وأساطير « كتبت على هذه البلاد كل ما جرى عليها من نكبات ، فهو السومري الأخير الذي يحمل فوق أكتافه سرها وألواحها الطينية لما تزل آثارها بين يديه ، ولهذا نراه يقولها بصرخة مدوية :
ثمّ لا، لن يُقنعني أحدٌ بعدَ الان
لا مسيرةَ غاندي للملح
ولا تراجُع غاليليو
ولا حتى مرافعة سقراط
أنّ كأسَ السمِّ ليس
جناحاً ..
الشاعر عبد الأمير وهو يكتب نصه هذا جعله في مقطعين انتهى الأول منه بالحرف « لا « الذي يقول عنه النحاة واللغويون أنه يفيد للإعتراض فهو هنا غير مقتنع أن الذي جرى ويجري الآن لبلاده ، « أوليست بغداد كل بلاده « ، يجري كسم له جناح
ولكي يمنحنا نظرة أخرى على ألواحه الطينية التي ينوء بحملها ، ها هو ينتقل بنا إلى مقطع ثانٍ من القصيدة التي اكتسبت تفاصيل جديدة :
لا لَمْ أتفاجأ بالأبيض ،
بثقةِ قاضٍ أمسكَ أخيراً بحُجّةٍ دامغةٍ
لإدانةِ متّهمٍ بالقتلِ ، سأستجوبُ النورسَ
كيف عرِفَني ..
وسأنتظرُ بهدوءِ جبلٍ بعيدٍ
إعترافَ الازرقِ بي ..
وعندما ، عندما أُحسنُ الغرق
سأتصدّى جسداً بجسد
لفُتُوّةِ النهر وطُغيانه
أُجالدُ السماء
أُقايضُها القواميسَ وخزائنَ الحضارات
بالأجنحة …
وبخُطوةٍ كالبرقِ ،
او هِيَ البرقُ
تفاصيل أحس بها كالزلزال استحضر من خلالها شاعرنا كل ما قاله آنفاً ، أضاف لها قدرته على استشراف ما حدث ويحدث ، والغربة الطويلة التي غاب فيها عن أرضه وحضارته ، ناسه وملاعب صباه وشبابه ، حملها جميعاُ معه وهو يبحر في البلدان كسندباد كان يأمل الرجوع يوما ، وعندما عاد وجد أن كل تلك الأخبار التي كان يتسمع لها عن الموت ، النكبات ، الجوع ، الاغتصاب ، حقيقة ، كم كان يرغب أن لا يصادفها ، ومن على شرفته تلك أغلق النافذة وبخطى حزينة أكمل آخر ما خطه الطين :
او هِيَ البرقُ
سأعبرُ فوق تضاريس الماضي والآتي
ونبوءات الصحراء ..
خلفي قطيعُ النجوم والآلهة
يرضعُ من أثداءِ ليلتي البيضاء
هذه ، تاركاً دجلةَ
يجُرّني من عُنُقي
مثل سفينةٍ قديمةٍ غارقة
الى ضفّةٍ تحمُلُ إسمي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *