لا لإهانة المرأة العراقية

لا لإهانة المرأة العراقية
آخر تحديث:

 بقلم:د. ماجد السامرائي 

منذ عصور العراق الأولى في الألف الرابع قبل الميلاد كانت للمرأة مكانتها المميزة وتحدثت عن ذلك الوقائع والأساطير، فقد كانت عشتار رمزا لأسطورة الحب والحرب عند السومريين والبابليين والآشوريين، وكان لها معبدان، الأول في نينوى باعتبارها آلهة الحب، والثاني في أربا إيلو باعتبارها آلهة الحكمة والحرب.

وكان معظم قادة وملوك الآشوريين يزورونها في معبدها قبل توجههم في حملات جديدة أو تقرير أمر مهم يخص مصير الإمبراطورية ليأخذوا منها النصح والموافقة، وهناك رموز وأسماء لامعة لنساء حكمن في عهود آشور وبابل والوركاء مثل شبعاد وانخيدو آنا وسمير أميس.

ارتبط اسم المرأة العراقية بالأرض فهي المانحة للحياة وهي الملكة الراعية، ولذلك أخذت مكانتها المتميزة عبر التاريخ، هذه هي مكانة المرأة في العهد العراقي القديم فهل يمكن أن تصل المهانة بها إلى القاع وتختصر تلك المكانة الرائعة إلى مخلوق قاصر مهان يتم تزويجه في عمر الطفولة تحت رعاية دينية مذهبية فوق الدولة والقانون؟

هذا ما يحصل اليوم في العراق الحالي في ظل التدهور الشامل في جميع مناحي الحياة، وفي ظل إعادة العراق إلى عصور الجهالة والتخلف، وهذه هي ثمار العصر الديمقراطي الأميركي الذي بشر به الرئيس الأسبق جورج بوش العراقيين.

لا ينكر أنه في عالم الأديان والمذاهب هناك اجتهادات في الأحوال الشخصية تُحترم تبعا لاحترام حقوق الإنسان، ولكن في ظل الدولة المدنية لا يجوز تعميم تلك الاجتهادات على النظام السياسي الذي يحكم الجميع. فعلى سبيل المثال إن الفقه الشيعي يجعل سن التاسعة سقفا للتزويج الفعلي، وما دون ذلك يصح كتابة عقد للمداعبة الجسدية دون دخول شرعي. أثبت كبار الفقهاء الشيعة في فتاواهم هذا “التصور الاجتهادي” فيما رفضه آخرون مثل آية الله محمد حسين فضل الله وآية الله محمد باقر الصدر.

تاريخيا ومنذ العهدين الملكي والجمهوري الأول وقف بعض الفقهاء الشيعة ضد قانون المحاكم الشرعية في العراق الذي منحهم حيزا كبيرا لإدارة شؤون الطائفة اجتماعيا، إلا أن رغبتهم الدائمة كانت تتمثل بفصل كل ما يتعلق بـ”الفرد الشيعي” اجتماعيا وماليا عن الدولة، وإخضاعه لسلطة رجال الدين وحدهم، تعزيزا لمكانة الطائفة، وخشية من صهر “المجتمع الشيعي” بـ”مجتمع الدولة” التي تتعاطى سياسيا على أساس الولاء للمواطنة، وهم يعتقدون بأنهم حكام اليوم فلا بد من أن يتم ترحيل تلك العقائد المذهبية وتعميمها على العراق ونظامه السياسي، وهو أمر يخالف الدستور. فكيف يمكن تصور انحسار الوضع الإنساني للمرأة العراقية وإهانة كرامتها بعد سلسلة نكباتها في الحروب الخارجية والداخلية والعنف والكراهية وما نتج عنها من ترمّل ويتم وتهجير للملايين.

اكتسبت المرأة العراقية مكانتها اللائقة في قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1958 الذي كان منسجما مع كافة الحقوق والحريات الأساسية في الدستور، كذلك كان يراعي ثوابت الدين الإسلامي بكل طوائفه، دون تغليب مذهب على مذهب آخر، لكن دعاة هيمنة الدين والمذهب لا يقبلون بمبدأ مساواة الرجل بالمرأة، فظهرت عام 2013 دعوة وزير العدل السابق إلى استصدار القانون الجعفري في محاولة لتقنين وتعميم مفهوم “التبعية الشيعية” الخاص بالأحوال الشخصية، في تجاوز واضح للدستور العراقي الذي صدر برغبة الأحزاب الشيعية نفسها، وقد هزم ذلك المشروع في مهده بعد ضجة شعبية واسعة.

ويعاد اليوم ترويج مشروع بذات المفاهيم المتخلفة داخل البرلمان العراقي عبر ما يسمى “مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية ” حيث تم إدراجه في جلسة مجلس النواب في 31 أكتوبر الماضي على الرغم من الاعتراضات الواسعة من قبل مؤسسات المجتمع المدني ونواب من كتل مختلفة.

مشروع قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية المقدّم من المجلس الإسلامي الأعلى، والتعديلات المقترحة سيئة للغاية تهدف إلى إعادة مجتمعنا إلى عصر الحريم والجواري بإجازة الزواج بأطفال قصر

هذا المشروع يتضمن مجددا مخالفة دستورية واضحة لأنه يحيل الأحوال الشخصية إلى الأوقاف رغم أنه في كل دول العالم يمثل قضية قانونية لتنظيم أمور المجتمع، وهذا خرق لمبدأ الفصل بين السلطات لأن تعديل القانون يسيء للمجتمع والمرأة العراقية، ولأنه يجيز الزواج من القاصرات وغيرها من أمور فيها تعد على حقوق المرأة ومن بينها وضع الحق للرجل لتحديد طبيعة الزواج، وهذا ينافي مبادئ حقوق الإنسان والقضاء العراقي فستكون لكل عائلة ولكل زوج تفسيراته الخاصة وحسب رغبة رجل الدين الذي لا نعرف مواصفاته كي نعطيه هذه السلطة والصلاحية لتنظيم أمور أحوال الناس الشخصية وأمور الزواج.

مشروع قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية المقدّم من المجلس الإسلامي الأعلى، والتعديلات المقترحة سيئة للغاية تهدف إلى إعادة مجتمعنا إلى عصر الحريم والجواري بإجازة الزواج بأطفال قصر (البنات خصوصا)، وجعل الزوجة في مرتبة الخادمة، وسحب قضايا الأحوال الشخصية من السلطة القضائية الدستورية إلى سلطة غير دستورية هي سلطة رجال الدين، كما أن القانون لم يراعِ أنّ المجتمع العراقي فيه إلى جانب المسلمين، مسيحيون وصابئة وإيزيدية وبهائية وفيه مسلمون من مذاهب عدة وليس من مذهب واحد، هو المذهب الشيعي، ولم يلتفت إلى التعارض بين أحكام القانون المقترح وشرعة حقوق الإنسان الدولية المُلزمة كما جعل عمر الزواج يبدأ في عمر 9- 13 سنة.

هذا التغيير تقف وراءه جهات من الإسلام السياسي بهدف كسب وانتخابي في مجتمع مازال يعاني من كبت جنسي ويحمل ثقافة ذكورية تسعى لغلق منافذ الحقوق للمرأة ومساواتها إنسانيا مع الرجل، وإحالتها إلى جهاز إمتاع دون تقدير لإنسانيتها أو بلوغها الجسدي أو مشاعرها بكونها كائنا لا يختلف عن الرجل في مشاعر الحب والاختيار.

إن تطبيق هذا القانون يذكرنا بتصرفات تنظيم داعش مع الفتيات عندما تم إجبار صغيرات السن على الزواج من عناصره أثناء وجوده في الموصل وسوريا، ويأتي هذا التعديل الذي وافقت عليه رئاسة مجلس النواب، في وقت تواجه فيه البلاد الانتهاكات لحقوق الإنسان، ولحقوق المرأة على وجه الخصوص، وبدلا من أن يتصدى مجلس النواب لهذا التدهور الخطير في ملف حقوق الإنسان، ويعمل على وضع حد له، نجده يتجاهل هذا الواقع، ويسعى إلى تكريس انتهاك حقوق المرأة والإنسان عبر التشريع القانوني الجديد، الذي يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، ويخرق الدستور في مادته 2 التي تنص على أنه “لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور”.

وفضلا عن ذلك يشكل مقترح التعديل المطروح لقانون الأحوال الشخصية مخالفة صريحة لما تضمنه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1325 وللخطة الوطنية لتنفيذ القرار، المتعلقة بتعديل التشريعات التمييزية ضد النساء، وتشجيع المساواة بين الجنسين.

وإذا كانت القوى الدينية المذهبية بعد هيمنتها على مجلس النواب قادرة على تمرير ما ترغبه من قوانين وقرارات، إلا أن عليها مسؤولية عدم أخذ البلد إلى ساحات الفرقة والاضطراب الاجتماعي بعد ما عاناه أهله من التشظي السياسي، ولا بد لها أن تدرك أن عالم اليوم لا يقبل بعصر الجواري الذي طبقه داعش في العراق، فهل القدرة على التحكم السياسي بالقرارات العامة تبيح تلك الإهانة بحق المرأة العراقية؟

وأغلب أولئك البرلمانيين سبق لهم الحياة ومازالوا يترددون إلى بلدان اللجوء الأوروبية، ويعرفون حقوق المرأة هناك حيث مازالت نساؤهم وعوائلهم يعيشون هناك ويتذوقون طعم قيمة المرأة فما هذه الازدواجية في المعايير؟

ونسأل رئيس الوزراء حيدر العبادي وهو المنادي بضرورة التغيير كيف قبل بتمرير هذا المشروع من كابينته الوزارية رغم أنه منتسب لحزب الدعوة، لكنه يتحمل مسؤولية وطنية شاملة؟ هل تستحق المرأة العراقية منه هذه المكافأة وهي التي قدمت أبناءها هدية للوطن؟

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *