ماذا تفعل بما تقرأه وتكتبه؟

ماذا تفعل بما تقرأه وتكتبه؟
آخر تحديث:

جاكلين سلام

الحكايات أحلام معمرة ومعابر معتمة ومضيئة ندخلها بأكثر من طريق. تقول مارغريت أتوود «كل قصة، في البداية، تكون كما لو إننا نفتح باباً على فضاء مجهول تماماً» فما الذي يحدث لنا كقراء في ذلك الفضاء وبعد العودة منه إلى واقعنا؟! حين يمارس الكاتب الخلق الإبداعي فهو يجرب حريته في تشكيل علاقات أبعد من الواقع قد تثير التعاطف أو التحدي الذي يتجاوز الخصوصية الفردية إلى القاعدة الاجتماعيّة العريضة. في الكتابة المتخيلة يحرر الكاتب أحلامه، ينتقد الواقع ويغوص في خرابه ونواقصه وجمالياته ويأخذ مشاعرنا في المتاهات معه لو أنه يفتح المعابر الداخلية للنفس ويحثنا على المشاركة.
عبر هذه القواسم يحفزُ الكاتبُ القارئَ على الحلم بما يتاح له من تفاصيل توقظ انفعالات حسّية وعاطفية، سياسيَّة ودينيَّة من خلال العلاقات بين شخوص القصة. تلك المشاعر الملتبسة المكتوبة تعيش في ذهن القارئ فترة كما لو أنها واقع محتمل أو حالة وسطية مستمدة من نماذج متخيلة ومتشابكة بالحقيقة الواقعيّة. وعبر هذا النموذج يشتبك القارئ بعالم آخر يحاول الإلمام به بالتعاطف أو النبذ.
نموذج من هذا الصراع الاجتماعيّ والنفسي المدون في التراث الفكري الأدبي العالمي وصلنا في أقدم أسطورة هي ملحمة جلجامش التي تقوم على ذلك الصراع الحاد في العلاقات، بشرية ونصف إلهية تأخذ أكثر من انعطافة بين جلجامش وانكيدو والمرأة الغاوية تحت ثيمة الصداقة، والعشق، السلطة، والموت كقطب آخر للحياة، وصولا إلى البحث عن نبتة الخلاص التي قد تقهر الموت وتعيد من نحب إلى الحياة وتلك معضلة الذهن البشريّ في بحثه عن باب للعودة إلى حيث كان ومنذ بدايات التكوين.
ماذا يحدث في أذهاننا وعواطفنا حين نقرأ الأساطير والقصّص والكتب المتخيلة؟ هل نعاين نفس الآثار حين نقرأ مقالا صحافياً أو كتابا وثائقياً؟ أسئلة كثيرة واختبارات ميدانية عرضها الكاتب الانكليزي «كيث أوتلي» في كتاب بعنوان» أشياء كالحلم، سيكولوجيا الكتابة المتخيلة». وانطلاقا من خبرته في حقل التحليل النفسي يخوض في هذا البحث الشائك كونه باحث سيكولوجي شغل منصب رئيس فريق البحث العالمي في ميدان دراسة المشاعر وله كتاب في هذا الحقل بعنوان «فهم العواطف» كما انه اشتغل مدرّساً في حقل علم النفس في جامعة تورنتو في كندا وله عدد من الروايات وحازت روايته الأولى على جائزة الكومنويلث لأفضل عمل روائي 1994.
يعتمد الكاتب على اختبارات ودراسات سابقة في هذا الميدان، يدعم أفكاره بمقاطع وتصاوير مأخوذة عن الدماغ ومناطق الانفعال ورد الفعل الحاصلة بعد قراءة رواية أو مقطوعة وثائقيَّة. كما يعتمد في قسم آخر من الكتاب على مقتطفات من الشّعر والقصّة والرواية وأحاديث الكتاب الكبار الكلاسيكيين بدءاً من شكسبير وصولا إلى مارسيل بروست، جين أوستن، وانتهاء بتحليل سيكولوجي وأدبي لقصّة قصيرة لرائد القصّة القصيرة انطون تشيخوف الشهيرة التي بعنوان» السيدة وكلبها الصغير» التي تعتبر قطعة كلاسيكية معروفة عالميا.
يقدم  للقارئ نتائج الاختبارات العيانية مشفوعة بدراسات ميدانية أجراها البروفيسور اوتلي على طلابه في الجامعة. كما درس أيضا المفارقات التي تحدث في الذهن حين وضعت نسختان من كتابة إبداعية، إحداهما مكتوبة قصصياً، والأخرى مكتوبة على شكل خبر واقعي. لوحظ أن الانفعال الذهني والعاطفي متباين إثر كل قراءة.

يولي الكاتب اهتماما عميقا للمساحة المشتركة ما بين الحلم والكتابة فيعود إلى شكسبير في «حلم منتصف ليلة صيف» يسوق مقاطع على لسان شخوص المسرحية، يخضعها للتحليل النقدي والبحث العلمي متناولاً المسرح كمكان، ملعب، أقنعة وأحداث. يورد أمثلة عن اختبارات قام بها هو، بمعية باحثين آخرين، خلصوا إلى النتيجة التالية: حين نقرأ عن حدث أو نسمع عنه، يتم تسجيل هذا الحدث في المخيلة، وهذا يستدعي تفعيل مناطق معينة في الدماغ مسؤولة عن الإتيان بالشيء ذاته، الذي نقرأ أو نسمع عنه.هل قراءة المتخيل مفيدة لنا، وأي نوع منها؟ هل نصبح أكثر ذكاء، حين نقرأ أدبا وننغمس في الفنون؟
وهنا يتناول مسألة الذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي وغيرها من العلوم التي باتت تشغل حيزاً في علم النفس الحديث. يخلص إلى القول إن كتابة وقراءة المتخيل تقوي الشّعور الاجتماعيّ لدى الفرد، تقوي فيه مشاعر الاحساس بالآخر بحالاته: الحب، الحرب، الجوع، الموت، المتع الجسدية، الطبيعة والكوارث، الهجرة والموت.

مغامرة الكتابة واكتشاف الذات في صراعها مع الآخر، يتوسع الكاتب في الربط ما بين المتخيل وألعاب الطفولة، يعود إلى تلك المساحة العذراء التي فيها يبدأ الطفل باختراع حلمه وقصته. يربط بين الأحلام في مسرحيات شكسبير واللعب المسرحيّ، ومسرح الطفولة البرئية فيصير المسرح نموذجا عن العالم، وتصير بالتالي النماذج الذهنية المكتوبة اساساً لعالم محتمل. هذه النماذج تهمنا في النهاية من أجل فهم العالم- الآخر الذي قد يكون حبيياً، أخاً، أما، معلماً، أو زعيماَ أو متسولاً.
مغامرة اللعب الفنّي تسمح لنا باكتشاف المتعة، تقوي التعاطف الذي يغنينا ويساعدنا على فهم أنفسنا وما يجول في طبقاتها المعتمة. فـ «القندس يصنع جسورا، الإنسان يصنع أصدقاء» كما يعبر الباحث أوتلي. وكثيراً ما نقيم صداقة بيننا وبين كاتب(ة) ما، وبيننا وبين شخصيات معينة لها تأثيرها من خلال دور في فيلم، أو شخصية في رواية أو أسطورة.

هل القراءة مؤثرة؟ هنا رأي للروائي الفرنسي مارسيل بروست، صاحب رواية «البحث عن الزمن الضائع» حول متعة القراءة وجدواها « في القراءة نعقد الصداقة مباشرة، وبنقاء، مع الكتب لا يوجد إكراه اجتماعي. فاذا أمضينا الليلة مع هؤلاء الأصدقاء-الكتب- فهذا يعني أننا حقيقة نريدهم. وعندما نغادرهم نفعل ذلك بشيء من الندم، ولكن حتى ونحن نفارقهم، لا شيء يغير في تلك الصداقات، لا شيء يموت»وهنا نطرح أيضا السؤال: هل القارئ والكاتب كائن اجتماعي أم انطوائي يهرب من الواقع إلى العالم المتخيل؟  وخاصة حين نعرف بأنّ الزمن الذي يستهلكه الكاتب كي ينتج قطعة أدبيّة مهمة ثمين وكبير ولا يقاس بالزمن الذي يقضيه القارئ مع الرواية أو القصة التي تخضع لمراحل طويلة بين التنقيح والتصحيح والإعداد للنشر في أجمل صيغة ممكنة. وذلك زمن غير ضائع إذا نجح الكاتب في خلق عوالم تبتلع القارئ وتثير فيه الأسئلة والإجابات التي قد تغير مجرى فكره وقناعاته.

هذه المتعة والعلاقة المتبادلة ما بين المتلقي للعمل الفني وبين صانعه تولد لأننا في تلك اللحظات نشترك في صنع الحدث، نختبر حال الآخرين وعواطفهم ونتمثلها بلا أقنعة.لكل كاتب أدواته وأساليبه في خلق عواطف تعمل على تفعيل متعة القارئ الذي ليس وعاء استقبال سلبي للمكتوب. ولا بد أن للقراءة متعة، مضافة إلى متعة الحديث عن الكتب، سواء من خلال مقالة أو من خلال نوادي القراءة والصالونات الأدبيّة، والجلسات التي تجري في هذه المرحلة عبر الانترنيت ومنصات التواصل الاجتماعي التي تتيح للجميع إمكانية التعبير والنقد والحديث بشغف عن جدوى الأدب وعن احتلامات المخيلة التي تتجسد لتصبح جسرا يسهم في استيعاب المشترك الإنساني من خلال علاقات البشر ببعضهم، بالأرض، والطبيعة والأحداث الكبرى.
أنت كقارئ أي نوع من الكتب تحوز على اهتمامك، الروايات أم كتب التاريخ والسيرة الذاتية، ولماذا؟ ولنذهب أبعد ونسأل: هل تقرأ 10 كتب في السنة، أم تكتفي بمشاهدة التلفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي؟! وهل تعرف كم يكون عالمك محدودا حين تحارب الكتابة والقراءة.وربما في نهايات كل عام نستطيع أن نعيد النظر في أهمية الوقت، كيف نكسبه، وكيف نخسره وكيف نفتح أبواباً وأمسيات ندعو إليها الكتّاب والقراء للحفر في تراث البشرية وإرث مفكريها. وفي نهاية كل عام يطرح بعض رؤوساء العالم الغربي قائمة بأهم الكتب التي أثرت بهم. كان باراك أوباما يفعل ذلك، ولكن لا أعتقد أن هذا يدخل في اهتمام القادة العرب.عزيزي القارئ، لا تكن مثل قادة البلاد، ابحث عن كتابك، اقرأه وتكلم عنه بحرية ولن تندم.من تورنتو.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *