ما وراء المعرفة بين الميتافيزيقا ونظرية العلم

ما وراء المعرفة بين الميتافيزيقا ونظرية العلم
آخر تحديث:

د. جبار خماط حمزة

قد يتبادر إلى الذهن ومن الوهلة الأولى عند ذكر مصطلح ما وراء المعرفة (Metacognition) أننا نتحدث عن أشياء أو ظواهر غير واقعية أو ظواهر روحية . والحقيقة أن مفهوم ماوراء المعرفة يعد واحداً من تكوينات النظرية المعرفية المهمة، فقد لاقى موضوع ما وراء المعرفة اهتماماً ملحوظاً في الآونة الأخيرة في مجال علم النفس المعرفي بعدّه طريقة جديدة لتنمية القدرة على التفكير لدى الأفراد, إذ يتكون ما وراء المعرفة من مقطعين الأول (Meta) الذي يشير إلى مفهوم الماورائية في قواميس اللغة والتي ترتبط دلالياً بالغيبية في حين جاء بمعنى « الوعي» في دراسات الوعي بالعمليات المعرفية(ما وراء المعرفة)، و (Cognition) التي تعني « المعرفة « إذ يشير مفهوم المعرفة الى الكم المتراكم من الخبرات والمهارات المكتسبة من قبل شخص ما من خلال التجربة أو التعلّم وهي أيضاً الفهم النظري أو العملي للحقائق و المعلومات والمبادئ و المفاهيم و المصطلحات والرموز والقوانين و القواعد و التعميمات و النظريات.
وتُعد المعرفة ناتج نشاط وعمل العقل الإنساني وتشمل المعرفة مختلف منتجات الفكر التي تتبلور فيها مخرجاته، وتساعد المعرفة على فهم وتحليل الظواهر والمتغيرات المحيطة بها للسيطرة عليها وتحقيق أهدافها . كما وصنّفت المعرفة إلى قسمين هما المعرفة النصية والمعرفة الأسلوبية، والمعرفة النصية هي المعلومات المتضمنة في مادة أو مجال معين بنصها وخوارزمياتها وكل ما يندرج تحت مصطلح (معرفة ماذا؟ )، والمعرفة الأسلوبية هي المعلومات التي تتعلق بكيفية الحصول على المعلومات أو استنتاجها وهو كل ما يندرج تحت مصطلح  (معرفة كيف؟ ) وهي تتمثل في تكوين تصورات ذهنية  أو تأثيرات حسية أو لفظية أو بصرية أو نتيجة أحداث يمر بها الشخص وتدخل إلى مخزون الذاكرة وتستخدم مصادر للأنشطة العقلية المتنوعة .
الجذور التاريخية لمفهوم ما وراء المعرفة
إن الجذور التاريخية لهذا المفهوم ترجع إلى (سقراط) وأسلوبه في الحوار والجدل ثم إلى (أفلاطون) الذي يقول :حينما يفكر العقل فإنما هو يتحدث إلى نفسه إذ يرتبط مفهوم ما وراء المعرفة بمفهوم الوعي الذاتي والاعتقاد وانعكاسه في النشاطات والفعاليات والمعرفة والذي نادى به (جون ديوي) عام 1933 ، إلا أن الرؤية الواضحة للمفهوم وأطره العامة يُمكن إرجاعها بشكلٍ جلي إلى عالم النفس   Flavell إذ كتب واصفاً المفهوم في عام 1963 إن ما يتم إنجازه فعلاً في العمر ( 7 – 12سنة) هو المعرفة المنظمة للأشياء الملموسة والأحداث ووضعها في مجموعات متصلة . وذكر البعض من الباحثين أن مفهوم ما وراء المعرفة (التفكير في التفكير) ظهر في بداية السبعينيات ليضيف بعداً جديداً في علم النفس المعرفي ويفتح أفقاً واسعاً للدراسات التجريبية والمناقشات النظرية في موضوعات الذكاء والتفكير والذاكرة والاستيعاب ومهارات التعلم وقد تطور الاهتمام بهذا المفهوم في عقد الثمانينيات ولا يزال يلقي الكثير من الاهتمام ، نظراً لارتباطه بنظريات الذكاء والتعلم وستراتيجيات حل المشكلة واتخاذ القرار.

الفروق و المشتركات بين المعرفة وماوراء المعرفة :
مع أن المعرفة (Cognition) وماوراء المعرفة (Metacognition) تعدّان من العمليات العقلية إلا أنهما تختلفان من حيث كيفية حصول الفرد عليهما أو اكتسابهما فالمعرفة مكتسبة، أما ماوراء المعرفة فهي تعبّر عن وعي ودراية الفرد وفهمه لهذه المعرفة المكتسبة، كما أن مصطلح المعرفة يشير إلى جميع العمليات النفسية التي بوساطتها يتحول المدخل الحسي فيطور ويختزن لدى الفرد إلى أن يستدعى لاستخدامه في المواقف المختلفة حتى في حالة إجراء هذه العمليات في غياب المثيرات المرتبطة بها، أما مصطلح ما وراء المعرفة فيشير إلى وعي الفرد بالعمليات التي يمارسها في مواقف التعلم المختلفة نتيجة حصوله على معرفة أو معلومات معينة تتصل بهذه المواقف . إن الستراتيجيات المعرفية تستخدم لمساعدة الفرد على تحقيق هدف معين مثل فهم قصة، بينما ستراتيجيات ما وراء المعرفة تستخدم لضمان أن الهدف قد تحقق مثل أن يسأل نفسه لتقييم مدى فهمه للقصة .وقد حددت الجمعية الأمريكية لتطوير المناهج والتعليم عدداً من مهارات التفكير يُمكن عدّها مهارات تفكير معرفية منها : مهارات التركيز كتعريف المشكلات ووضع الأهداف، ومهارات جمع المعلومات كالملاحظة والتساؤل ومهارات التذكر كالترميز والاستدعاء, ومهارات تنظيم المعلومات كالمقارنة والتصنيف والترتيب، ومهارات التحليل كتحديد الخصائص والمكونات وتحديد العلاقات والأنماط، والمهارات الإنتاجية والتوليدية كالاستنتاج والتنبؤ والتمثيل، ومهارات التكامل والدمج كالتلخيص وإعادة البناء وأخيراً مهارات التقويم كوضع محكات والإثبات و تعريف الأخطاء.

مهارات ما وراء المعرفة :
إتفق بعض العلماء والباحثين على مهارات محددة من مهارات ما وراء المعرفة إذ حددت  بثلاث عمليات هي ( التخطيط، المراقبة والتحكم ، التقييم ) . – التخطيط : تعد مهارة من أهم المهارات العقلية الما وراء معرفية فهي ضرورية عند الحاجة لتحقيق هدف معين أو حل مشكلة ما أو إنجاز مهمة تعليمية أو غير تعليمية وكذلك تتضمن إدارة نشاطات التفكير وتوجيهه عندما ينشغل الفرد في موقف حل المشكلة . – المراقبة والتحكم : تعدّ من أهم المهارات الاساسية  بوصفها إحدى العمليات التنفيذية التي تشكل محوراً مهما في مهارات ما وراء المعرفة كذلك بوصفها دلالة عن مدى نجاح الفرد في مراجعة خطوات العمل وتنقيحها أولاً بأول، مع توقع ما ستكون عليه النتائج .- التقييـم : تستخدم هذه المهارة في حال تقييم الطالب حالته المعرفية التي وصل إليها قبل، وأثناء و بعد ممارسته لمهمة تعليمية معينة . وهي كذلك تمثل مدى تحقق الهدف من عدمه ومدى صحة النتائج والخطوات التي أدت إليها، متسلسلاً من الاهداف الفرعية وحتى الهدف العام. أكدت بعض المصادر والدراسات على نجاعة مهارات ما وراء المعرفة، ويتجلى ذلك فيما توفره من ديمومة لتوظيف القدرات العقلية العليا في المجالات المتعددة للتعلم والاداء المعرفي . وفي الآونة الاخيرة بدأ التركيز على التطبيقات التربوية لمهارات ما وراء المعرفة التي قد تسمح للمتعلمين بالتفكير في التفكير من خلال حل الفرد للمشكلة، كما تبين أن هناك ارتباطاً بين مهارات ما وراء المعرفة في مجال الاداء الاكاديمي أو الاداءات التي تتطلب وعيا عاليا في إنجاز مهمات حياتية حرجة او ملّحة . ومما تقدم يتضح أن ما وراء المعرفة أبعد ما تكون من الميتافيزيقيا بل هي جزء لا يتجزأ من نظرية العلم والمعرفة .

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *