محمد خضير و “الحكاية الجديدة”

محمد خضير و “الحكاية الجديدة”
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة أخبار العراق- يقترح محمد خضير نهجا قرائيا للحكاية، يستنطق من خلاله حمولاتها الرمزية، وخطابها المائز بوظيفة استعمال الأفكار وتداولها، وتغذية المادة الأدبية فيها بتصورات تُثري أثرها وتوصيفها، وبما يجعل عملية التأليف السردي خارج لعبة (القصاص المجهول) كما يسميه ص33، إذ كان هذا القصاص- تاريخيا- خارج النص، ومسكونا بفكرة الضحية، لأن الحكي هو اللعبة المضادة للسلطة وللجماعة.وكتب علي حسن الفواز، في تقرير نشرته “القدس العربي”،  أن خروج القصاص/ صانع الحكي إلى العلن، يمثل واحدا من أخطر التحولات السردية، ليس لأنه غادر هاجس الأضحية، أو لذة المعارضة السرية، بل لأن فكرة القصاص صارت جزءا من منظومة المدينة وحاجاتها التدوينية، المدينة السياسية والمدينة التجارية، وهو ما يعني أن وجوده فيها صار لازما لإتمام عمران المشهد، بما فيه عمران الإيوان الذي تؤسسه السلطة عادة.في كتابه “الحكاية الجديدة” نجد عتبات نقدية وسيميائية لاستعادة وظيفة الحكواتي، الذي يصطنع له محمد خضير توصيفات مفتوحة تشتبك فيها وظيفة الرائي مع العارف، أو وظيفة الرؤيا مع مجرات التأثير، تلك التي تعدّل من وظيفة الحكي ليكون في منطقة مواجهة مع التاريخ والأصول، والانفتاح على تنافذات تعمّق وعي الكتابة بوصفها تدوينا للحكي، وتستشرف أفقا يضع النص المكتوب في سياق إعادة هوية ذلك القصاص المجهول، وترميم صورته، وإدماجه في تاريخ الكتابة بوصفها الكوني والإنساني المعاصر، وعلى تعلية فكرته التي تكتمل بها صورته، حيث تكون في القصة معلومة جديدة أو رسالة مؤثرة، وحيث يكون التاريخ فيها مقابلا للسرد قابلا للتداول ولصناعة وعي متعال يمكن تجريبه والسفر في مجرات تأثيره.فكرة ترميم صورة القصاص، تنطلق من فاعلية الاستعادة تلك، التي يقترح لها محمد خضير منظورا نقديا متقدما في وعيه التاريخي، وفي اشتراطات الحداثة، إذ يربط تعدد (مراجع القصة بتعدد وسائل الإدراك التي وفرتها ثورة المعلومات وسُبُل الاتصال العالمية، فتجاوز الكاتب المصدر المرئي والمرجع القريب إلى المرجع التنافذي المستمر الجريان، ومدّ مقاصده عبر محيط الوعي المحدود، ومخزن اللاشعور الآسن إلى محيطات الوثائق الجارية في عقل العالم الأكبر، ورؤية الفصول المتجاذبة بالإشارات المتقاطعة حول قلاع الطرق الفضائية والسهوب الزمانية واللازمانية المترامية الأطراف) ص67 القص الحكائي- رغم كل التوصيفات المورفولوجية- لم يعد محاولة عائمة في حفر تاريخ النصوص والسير والأسفار، بل صار باعثا على صناعة قوة مجاورة للنص، ذلك الذي يتكأ على الوثيقة والشهادة، وعلى الخطاب المعارض، وعلى المدونة السرية، إذ يكتسب النص من خلال هذا الانبعاث قوته التي يقدّم (ضماناتها) الكاتب، وسياقاتها التي تضعه أمام الحاجة إلى (دافع خاص به، دافع محلي، دافع أكثر التصاقا بشخصيته وتطابقا مع صفاته) ص25 فحين يضع النهج القرائي للكاتب منظوره أمام عملية التحويل الإجناسي للمادة الأدبية، فإنه حتما سيشرع نحو أنسنة عناصره، وإكسابها جودة (وجود بصمة، أو توقيع يشير إلى الصانع الماهر، توقيع يترسخ مع الزمن، كما ترسخ توقيع نجار على باب قديم، أو خزّاف على صحن أثري، أو نسّاخ على هامش مخطوط قديم، فالظهور المقصود هنا مهارة تخدم النص القصصي) ص 27-التحويل الحكائي في القصة هو تمثيل للوعي الذي يعيش تحولاته القاص، عبر إعادة قراءة وتدوين الأحداث والسير والصراعات، وعبر الانفتاح على عوالم تستدعي استيلاد فكرة المعنى عبر المعيش والمواجهة، التي تتحول في جوهرها إلى ما يشبه لعبة الوعي الظاهراتي الذي يقوم على استعادة ذلك المجهول القديم في الحكاية، بوصفه سرائر خبيئة ومضللة لعالم رمزي، أو لصراعات، أو لأساطير وتخيلات أنتجها الإنسان في سياق مقاومته للموت، لذا تتلبس كتابة القصة نوعا من الامتلاء باستدعاءات ذلك الوعي، مثلما كانت كتابة الحكاية في التاريخ الشهرزادي تشبه التقنّع بقناع بوسيلة الحكي لمواجهة المحو والموت، وأنه يضع الحكاية القديمة/ الأثر أمام استعمالات سردية واستعارية تتقبل شيفرات المراوغة والاحتيال، أو لتمرير موقف سياسي أو ديني، التي هي ذاتها الآن عبر اقترابها من تقانة الكتابة السردية، حيث حرفنة التصرف بالمجال التوصيفي، وحيث إدخال وظيفة المجال النحوي عبر ضمائر السرد بوصفها نظاما لترسيم حدود السرد/القص في سياق الزمن والمكان.

أول الحكاية..

منذ أن كتب محمد خضير مجموعته الأولى “المملكة السوداء” وهاجس الحكي يستفزه، إذ تستغرقه حكايات النساء المعطوبات، المهجورات، والبغايا الضحايا اللائي لا يملكن من الجسد إلاّ الهشيم كما في قصة المئذنة “مئات من الأقدام كانت تدوس وجهها وشعرها وفخذيها لتحيلها هشيماً في آخر النهار- هشيماً لا تقاوم لذته”، والبحث عن خلاص ما عبر تمثل رؤية المخلص/ الشفيع في قصته “الشفيع” وعبر مواجهة القبح السياسي والوجودي، الذي لا يملك الإنسان إزاءه غير الصراخ كما في قصة “الصرخة” وصولا إلى مجموعته الثانية “درجة 45 مئوي” تلك التي توحي قصصها بطبيعة علاقته بما يحيطه، وبانشغال غير بعيد عن الحكي واليوميات المغروسة بالقلق والانتظار، وكأن القصص تحرضه على إعادة وضع الكتابة بمواجهة العطب الروحي، حيث عطب الشخصيات، وحيث عطب المواجهة مع المكان السياسي، والمكان النفسي والمكان الطبقي، فأبطال محمد خضير نتاج لتاريخ طويل من القمع الطبقي ذي الملامح الإقطاعية، والقمع الجنسي بإكراهاته الذكورية، ومركزياته القبلية والعشائرية.. هذا العطب بمعناه النفسي والإخضاعي يضع الكتابة بمواجهة الكبت والتابو، ويدفع للتموضع في المزيد من الوصف، تلك التي تتلمس التفاصيل، والتي تجعل من قصصه مشغولة بنوع من (الحكي) الذي يصطنعه قاص عليم، يضع نظرته الواقعية بموازاة اقتراح بنيات رمزية تنطوي على شيفرات توحي بما يمور في عوالمه من صراعات، تلك التي يتكثف وجودها في المكان المعادي (السرداب، البيت القديم، منزل النساء، المكان الكابوسي) إذ يتحكم هذا المكان بحيوات شخوصه المسحوقين، مثلما يتحول إلى علاقة فارقة لمشغله السردي..

العودة إلى عصر الحكاية كما يقول محمد خضير في كتابه “الحكاية الجديدة” يتمثلها عبر تعديل منظوره لمفهوم الحكي، إذ يصوغ له بنى سردية تتجاوز واقعية “المملكة السوداء” و”في درجة 45 مئوي” و”تحنيط” إلى نوع من الرمزية التي تثير الانتباه إلى سيرورة تأويلية، وإلى مقاربة تنحاز إلى تحقيق فكرته المتجاوزة عن الحكاية، وعن سطوعها وتنافذها مع الكشوفات التي (تحتاج إلى حكاية تروي بطولة تعمير المجاهل وإقامة المدن والحروب الأهلية) ص22 وأحسب أن هذه الإحالات في تجنيس الحكاية- حكاية الرؤيا، وحكاية المكان الرمزي- بدت أكثر وضوحا في كتبه (رؤيا خريف، بصرياثا، كراسة كانون) فهو بدا أكثر استغراقا في توصيفها، من منطلق أن لكل عصر حكاياته، فهو لم يعد في (عصر الجاز) أو عصر (الحكايات الغرائبية والاحتجاجية التي كتبها ترومان كابوت، وباورز، وهنري ميلر وسالنجر وكيرواك ورومان ميلر، والحكاية الفضائية الخيالية التي تقود الحكاية إلى منتهاها كما كان عصر الماموث مبتداها) ص23.

محمد خضير يكتب حكايات وعيه الظاهراتي، ذلك الذي يستعيد من خلاله أمكنته الحميمة والغائبة، وعوالمه السحرية، وتفاصيل قراءاته اليومية، ولحظات اشتباكه مع عالم يتغير بسرعة مدهشة، عالم له تقاناته السردية، وله خصوصيته في استجلاب المعنى المفارق.

 

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *