محنة الشعب في حكامه!

محنة الشعب في حكامه!
آخر تحديث:

كاظم حبيب

الأيام الأخيرة أعادت لبغداد حمامات الدم المسفوح لتذكر العراقيين والعراقيات، لتذكر من نسي بأن العراق كان وما يزال دولة مخترقة، وأن السلطة التنفيذية القائمة فيها عاجزة تماماً عن حماية سكانها، وأحزابها الحاكمة فاسدة حتى النخاع، فهل يمكن أن تقع هذه السلسلة من التفجيرات ببغداد ليسقط عشرات القتلى ومئات الجرحى في منطقة الكرادة، وسط بغداد، المزدحمة بالسكان خلال أيام معدودات لو لم تكن سلطاتها الثلاث فاسدة ومخترقة ومتصارعة على السحت الحرام؟!

كان الشعب العراقي وما يزال يعيش محنة مستديمة، محنة الشعب في حكامه، في العلاقات الإنتاجية البالية التي تعيد دوماً إنتاج حكام لا يختلف بعضهم عن البعض الآخر إلا بالاسم، وليس بالأهداف والأساليب والسلوك والعواقب. وحين يحن الشعب أو غالبيته لماضٍ مريضٍ، يعتقد إنه كان الأفضل من النظام القائم حالياً، بسبب شدة قساوة ورثاثة الجديد القائم، ولكنه ينسى إن الماضي المريض هو الذي أسس للحاضر الأكثر مرضاً والأشد قسوة على الشعب والأكثر كراهية للإنسان وحقوقه ومصالحه.

محنة الشعب في حكامه، الذين يدعون إنهم جاءوا لخدمة الشعب والدفاع عن مصالحه، وبهذا الستار المهلهل يفرضون على الشعب أن يقوم بخدمتهم وأن يدافع عن مصالحهم، التي هي ضد مصالح الشعب جملة وتفصيلا. هكذا كان العراق في العهود القديمة المنصرمة، وهكذا كان في العهود الإسلامية، وهكذا هو في العهد الملكي، وهكذا هو الآن! أين يكمن العيب، في الشعب أم في حكامه؟

العيب يكمن في الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الشعب والحكام، في العلاقات الإنتاجية التي ما تزال سائدة والتي لم تتغير منذ قرون، وما حصل عليها من تغيير لم يكن سوى القشرة التي سرعان ما تستبدل بقشرة أخرى من ذات الجنس، في حين لا يعالج لُب القضية، جوهرها الأساس، أي لا يجري تغيير علاقات الإنتاج التي كانت وما تزال تتحكم بالواقع القائم وفي سلوكيات الناس والحكام.

العيب في طبيعة الحكام، فهم يجدون في العلاقات المتخلفة والاستغلالية السائدة إنها تستجيب لمصالحهم، وبالتالي لا يسعون إلى تغييرها، بل يسعون إلى تكريسها. والعيب في المجتمع الذي لم يرَ النور ولم يعرف التنوير الديني والاجتماعي حتى الآن، وبالتالي لا يستطيع في غالبيته إدراك أهمية تغيير علاقات الإنتاج لتساهم في تغيير الواقع القائم ومن ثم تغيير الحكام الذين يفرضون إرادتهم على الشعب.

والعيب في علاقات الإنتاج يتجلى في مجمل البناء الفوقي القائم بالعراق، الذي هو نتاج تلك العلاقات المتخلفة والبالية والسائدة، ولاسيما في الفكر والسياسة وفي بنيتي الاقتصاد والمجتمع، وفي سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها وهيئاتها، في المؤسسات والمرجعيات الدينية، في الأحزاب والمنظمات، وفي الثقافة بمختلف حقولها.

ولكن، حتى في هذا المجتمع المتخلف، تبرز التناقضات، وتنشأ عنها الصراعات، بين القديم البالي والمعرقل لأي تحول جديد، وبين الجديد المتطلع للتغيير. ويتجلى ذلك في الفكر والسياسية والاقتصاد، في القوى والأحزاب والمنظمات، في الثقافة وفي مجمل البناء الفوقي.

وعلى مستوى وعمق وشدة هذه التناقضات وما ينشأ عنها من صراعات فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وفي مجمل البناء الفوقي، يتحرك المجتمع صوب أحد احتمالين: استمرار التخلف والجمود النسبين، أم التغيير صوب الجديد الأكثر إشراقاً. وميزان القوى هو العامل الحاسم في تحديد الوجهة في الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية الجارية بالبلاد.

ميزان القوى لا يتغير بسهولة وبسرعة ولا وفق الرغبات، بل يخضع لعوامل كثيرة، بما فيها وبشكل خاص بدور تلك القوى الساعية للتجديد وفي مدى وعيها للواقع وقدرتها على طرح الشعارات والمهمات التي تستجيب لمصالح الناس مباشرة وصواب ربطها بالقضايا الوطنية المهمة التي تمس المجتمع كله أولاً، وفي مدى قدرتها في الوصول إلى من يملك القدرة على التغيير، إلى المجتمع، إلى فئاته التي تتطلع للتغيير، والتي هي متضررة من بقاء علاقات الإنتاج المتخلفة والبائسة والبناء الفوقي الناتج عنها، ومنها السلطات الثلاث، لاسيما السلطة التنفيذية. وميزان القوى لا يتغير ما لم تدرك القوى الساعية للتغيير بأن كلاً منها لا يستطيع تحقيق التغيير ما لم تلتقِ كلها عند معايير وقيم مشتركة وبرنامج بحد مناسب تلتقي عنده كل القوى الديمقراطية ويمتلك الجاذبية الواقعية في تعبئة فئات المجتمع المتضررة من بقاء الوضع الراهن، والتي تشكل عملياً غالبية المجتمع.

مهمة القوى الساعية للتغيير ليست سهلة، رغم إنها تتحرك على وفق قوانين التطور الاجتماعي، إذ إن عصي الماضي الغليظة توضع دوماً في عجلة التغيير والتقدم، ويحتاج المجتمع إلى صنع عجلة قوية فولاذية متماسكة تستطيع تكسير، بل تحطيم، تلك العصي الغليظة المعرقلة للسير بالمجتمع والدولة إلى الأمام.

لا يكفي أن يكسب للتحالف من هو مع القوى الديمقراطية وبرنامجها حالياً، بل هناك الملايين من الناس التي يجب ان تكسب في هذه المعركة التي ما تزال غير متكافئة. فهناك الكثير من الجماعات التي لم تحسم موقفها لأسباب مصلحية مؤقتة، أو دينية مشوهة زيفت وعي الإنسان، أو علاقات عشائرية بالية لم تعد مناسبة لهذا القرن الواحد والعشرين، على سبيل المثال لا الحصر، التي يجب ان تكسب. بل يمكن ويجب التحري عن القواسم المشتركة لتكون الحامل الفعلي للتغيير.

إن القوى الإسلامية السياسية الطائفية المتطرفة، وكل القوى المتحالفة معها من الجبهة اليمينية القومية الشوفينية المتطرفة، بكل تنوعاتها، تعمل اليوم على تشكيل تحالفات سياسي-اجتماعي لإجهاض تحقيق التحالف الديمقراطي المدني، لإفشال أي تغيير جذري منشود، وهي تمارس عملية تشويه صورة القوى الديمقراطية بكل السبل المتاحة لديها، بما في ذلك استخدام بشع لإعلام الدولة ومؤسساتها الإعلامية. وهذا الواقع يفرض على القوى الديمقراطية أن تجد الوسائل النضالية العمية التي تسهم في تفكيك هذه الجبهة اليمينية المتطرفة وتحت هوية الإسلام السياسي، الذي برهن على فساده القاطع ومشاركته في كل ما يعيق تقدم المجتمع وازدهاره وتكريس رثاثة البلاد كلها، لتستطيع المواجهة الناجحة والسلمية أمام هذه القوى التي ألحقت أبشع الأضرار بالشعب العراقي والدولة العراقية، التي جعلتها ليس هشة وعليلة فحسب، بل ومخترقة بسيادتها واستقلالها من قبل دول الجوار والدول الكبرى.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *