يوسف الصائغ… شاعرُ اللحظة النادرة

يوسف الصائغ… شاعرُ اللحظة النادرة
آخر تحديث:

محمد صابر عبيد

 يوسفُ الصائغ شاعرٌ فطريٌّ بالمعنى التشكيليّ النابع من حساسيّة التعامل مع اللحظة الشعرية النادرة بيسر شعريّ طريف وهائل وفريد، الدوالّ الشعرية بين يديه عجينة سهلة القياد، وأصابعه بلغتْ أعلى درجات الخبرة على نحو تصنعُ فيها تماثيلَهُ الشعريّة من دون أيّ تلكؤ أو ضعف أو إرهاق أو معاناة أو خلل أو شطط، تتحرّك حيوات القصيدة ببساطة منقطعة النظير لتؤلّف تشكيلها النادر على نحو لا يمكن أن يتكرّر أو يُقَلّد أو يُضاهى، هذا التشكيل يبدو وكأنّه قريب جداً من تمثّلات المتلقي إلى درجة الإحساس بأدقّ التفاصيل، لكنّه في الوقت نفسه بالغ العمق والرهافة حتى يكون بعيداً كلّ البعد عن محاولة التقليد أو المجاراة أو إعادة الإنتاج.

اللقطة الشعريّة التي يُنتجها لقطةٌ متكاملةٌ من حيث صفاء الصورة، ودقّة التعبير، والرسم الشعريّ المفعم بالدراما والسرد والتشكيل، داخل رؤية جماليّة مُشبعة بطاقة لغة ثريّة تتقصّد البساطة والعفويّة والبداهة والارتجال باقتدار فنيّ عارف ومثير، لكنّها في الجانب الخفيّ الآخر من فضائها التشكيليّ تنطوي على حرَفَيّة عالية في البناء والتركيب وهندسة الموقف، ومنذ مجموعته الشعريّة الشهيرة (سيّدة التفاحات الأربع) وحتى آخر قصيدة كتبها قبل وفاته ظلّ حريصاً على أسلوبيّة خاصّة تتطوّر بطيئاً من الداخل، وهو شغوف بها ويعتقد أنّ الشعر يجب أن لا يُكتب إلّا بهذه الطريقة، على نحو يعكس مفهومه النوعيّ للشعر، ولطالما كان في مواقفه من الشعر والشعراء يوجّه انتقادات لاذعة للشعر الذي يأتي نتيجة إعمال الفكر والفلسفة، معتقداً ببداهة الشعر وطرافته وقربه من الناس، لكن على يد شعراء حقيقيين يعرفون كيف يصلون إلى الناس بهذه البساطة الموحية والكثيفة القادرة على تمثّل جوهر الفعل الشعريّ برؤيته الإنسانيّة. قصيدته لا تشتغل على الموضوع الشعريّ من حيث شكله وحجمه وأهميته ومرجعيته وأصالته، بل على حساسيّة التشكيل الشعريّ الحامل للموضوع، بمعنى أنّ الموضوع الشعريّ مهما كان بسيطاً وصغيراً، وربّما عاديّاً، فإنّه يتحوّل بين يدي قصيدته إلى حالة شعريّة استثنائيّة، ولحظة شعريّة خاطفة لا تتكرّر، ثمّة قدرة شعريّة باهرة على شحن الموضوع بطاقة شعريّة خلّاقة تنقله من بساطته أو عاديته إلى أهمية شعريّة باذخة يرتوي بماء شعريّته الدافق، ويصير جزءاً من متن شعريّ يتجاوز صورته الماقبل شعريّة ليحلّ في كينونة شعريّة ساحرة تبهر مجتمع التلقّي، وتسهم في تحقيق انتمائه الصميميّ إلى جوهر الشعر بعيداً عن حساب المرجعيّة الموضوعاتيّة، بمعنى أنّ اللحظة الشعريّة الباهرة التي تقدّم القصيدة هي ما يعوّل عليه الشاعر من دون أيّ شيء آخر. تتسّم شعرية يوسف الصائغ وحداثته بما يمكن وصفه بالسير الشعريّ على حافة النثر مع عدم التحوّل إليه، وبكلّ ما ينطوي عليه ذلك من خطورة إذا ما تمكّن النثر من التهام الشعر، بمعنى أنّه يسهم في تحويل الكلام العاديّ إلى شعر بطريقة فذّة لا يمكن توقّعها أو الانتباه إليها، وثمّة إيقاعيّة شعريّة متدفّقة تشرق من كلّ مكان وزاوية وبطانة وطبقة وظلّ في القصيدة، تغمر الكلام الشعريّ بحيويّة شعريّة كثيفة وساحرة، أمّا طرافة صوره الشعريّة فهي ميزة استثنائيّة لا يشبهه فيها أيّ شاعر آخر أبداً. يوسف الصائغ يزاول حريّة السير الطبيعيّ على الأرض بقدمين من شعر، ويمسك الأشياء بأصابع من شعر، حتى التنفّس عنده لا يتمّ إلّا شعراً، ويمتاز بقدرة عجيبة على صوغ لغة شعرية متحرّكة تسري في أوصال الحياة برحابة مدهشة، إنّ شعره جزء لا يتجزّأ من حساسيّة الحياة اليومية بكلّ مفاصلها وحيثياتها وتمثّلاتها وخفاياها وظواهرها، من الحياة وفيها وإليها بطريقة يشعر القارئ فيها أنّ هذا هو الشعر وهكذا ينبغي أن يكون. لعلّ من المميزات الخاصّة لشعريّة يوسف الصائغ وحداثته أنّ شعره كلّه كتلة واحدة متجانسة ومتكاملة وشاملة ومتداخلة، لا فرق بين قصيدة يكتبها عن الحبيبة وقصيدة يكتبها عن الحرب، بين قصيدة يكتبها من وحي الطبيعة وأخرى يكتبها من وحي الحنين والغربة والألم، بين قصيدة تتحدّث عن الحياة وأخرى تتحدّث عن الموت، بين قصيدة ذاكرة وقصيدة حلم، قصائده على نحو عام ترنو إلى الطبيعة الاجتماعية والثقافية والإنسانية بلغة تشبه الماء الصافي المعدّ دائماً لمزيد من العافية والرواء والتفتّح الدائم على اللغة والأشياء.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *