لماذا فشلت خمس محاولات لإقامة دولة كردية ؟

لماذا فشلت خمس محاولات لإقامة دولة كردية ؟
آخر تحديث:

بقلم: أحمد صبري

استكمالًا لِمقالِنا السَّابق الَّذي حمَل عنوان (بغداد ـ أربيل هل الطَّريق سالكة) المنشور في هذه الصحيفة الغراء (الوطن العُمانيَّة) مؤخرًا، نستعرض مسار العلاقة الشَّائكة بَيْنَ أكراد العراق ودوَل العالَم، لا سِيَّما دوَل الجوار الكردي بعد أكثر من (100) عام على أوَّل تجربة إقامة دَولة كرديَّة، في محاولة لاستجلاءِ الموقف من سَعيِ الأكراد لإقامة دَولة، ولماذا فشِلَت المحاولات الخمس ودَوْر العامل الخارجي في إجهاضها، فضلًا عن الظُّروف الَّتي رافقت تلك المحاولات الَّتي وصفها رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني بأنَّ تجربة المئة عام كانت فاشلة، ولَمْ تستجبْ لِطُموحاتِ ومشاغل الشَّعب الكردي.

وحتَّى نضعَ مسار العلاقة في سياقها الصَّحيح بَيْنَ بغداد وأربيل، من المناسِب التوقُّف عِنْد تجربتَيْنِ كادتا تُمهِّدان لِتَصويبِ تلك العلاقة وتضعانها في مسارها وخواتيمها المرجوَّة بشراكة حقيقيَّة بَيْنَ الطرفَيْنِ.. الأولى كانت في بيان الـ(11) من آذار ـ مارس 1970 عِنْدما اتَّفقت القيادة العراقيَّة مع القيادة الكرديَّة على حلٍّ واقعي نال موافقة جميع الأطراف وصدور بيان الحادي عشر من آذار ـ مارس الَّذي رسمَ مسار وأُفق العلاقة بَيْنَ الطرفَيْنِ عَبْرَ الشَّراكة وتحديد مناطق الحُكم الذَّاتي للأكراد الَّتي لَمْ تعمرْ طويلًا وانتهت بالفشل. فيما كانت التجربة الثَّانية عام 1991 بعد حرب الخليج الثَّانية عِنْدما عرضت القيادة العراقيَّة على الوفد الكردي برئاسة البرزاني والطَّالباني صيغة مطوَّرة وموسَّعة لِلحُكم الذَّاتي لِلأكرادِ مع ضمانات بالالتزام بمفرداتها، غير أنَّ هذه المحاولة فشِلَت أيضًا بسبب الضُّغوط الأميركيَّة على الوفد الكردي الَّتي أكَّدت لَهُم أنَّ واشنطن بوارد إسقاط النِّظام، ورأتْ في اتِّفاق الأكراد معه ما يقوِّيه ويُعرقل المحاولات الأميركيَّة لإضعافِه ثمَّ تغييره، الأمْرُ الَّذي ظلَّت هذه العلاقة غير مستقرَّة ومرهونةً بقرار العامل الخارجي الَّذي وضعَ القضيَّة الكرديَّة في متاهات، وأُفشلت بسببه خمس محاولات لإقامة دَولة كرديَّة.

ولِلتَّوضيحِ، فإنَّ الوفد الكردي الَّذي زار بغداد عام 1991 ضمَّ جميع الأحزاب الكرديَّة بَقِيَ في بغداد نَحْوَ ثلاثة أشْهُر بانتظار موافقة قياداته على الصِّيغة الموسَّعة لِلحُكم الذَّاتي الَّتي اقترحَتْها بغداد حينذاك، والسَّبب كما راجَ في تلك الفترة أنَّ القيادة الكرديَّة كانت تريد ضمانات دوليَّة لاتِّفاقها مع بغداد، وعِنْدما التقيتُ (أنا) بالبرزاني وأجريتُ معه حوارًا نُشر في الصُّحف العراقيَّة سألتُه عن سببِ تأخير توقيع الاتِّفاق مع بغداد، والمعلومات الَّتي أشارت إلى مطالبة الأكراد بضمانات دوليَّة لأيِّ اتِّفاق مع العراق؟ أجابني بالحرف الواحد: إنَّ صدام حسين هو ضمانة الأكراد في أيِّ اتِّفاق مع الحكومة العراقيَّة، ومردُّ هذا التَّأكيد هو أنَّ الحلَّ ينبغي أن يكُونَ عراقيًّا، وأنَّ اللجوء إلى العامل الخارجي ربَّما لا يُحقِّق لِلأكرادِ ما يصبون إِلَيْه بسَببِ النُّفوذ والمصالح والأطماع الخارجيَّة.

وتاريخيَّا شهدت المئة عام خمس محاولات لِقيامِ دوَل كرديَّة ولَمْ تعمرْ أيٌّ مِنْها طويلًا، كما هو متداول في وسائل إعلام كرديَّة ومن أرشيفها. وأوَّل دَولة كرديَّة أسَّسها الشيخ محمود الحفيد في مدينة السليمانيَّة عام 1922 وعاشت سنتَيْنِ فقط قَبل أن تزحفَ القوَّات العراقيَّة مدعومةً من بريطانيا لإجهاضِها، فيما تكرَّرت المحاولة الثَّانية عام 1923 واستمرَّت حتَّى العام 1929 واتَّخذت من منطقة ناجورنو كاراباخ وطنًا لهَا، وهي منطقة مُهِمَّة تقع بَيْنَ أرمينيا وأذربيجان.وشهد العام 1929 التجربة الثَّالثة بِتأسيسِ جمهوريَّة لاجين برئاسة وكيل مصطفاييف، ولكن لَمْ يُكتبْ لهَا النَّجاح وانهارت بسرعة، فلجأَ مصطفاييف إلى إيطاليا.

وعِنْد انتهاء الحرب العالَميَّة الثَّانية مستغلَّةً ضعف الحكومة الإيرانيَّة ودعمَ الاتِّحاد السوفيتي للأكراد أسَّست المعارضة الكرديَّة جمهوريَّة مهاباد، وهي التجربة الرَّابعة. وانهارت مهاباد سريعًا بفعل تحالفات الشَّاه مع بريطانيا والولايات المُتَّحدة، وتخلِّي ستالين عن الأكراد مقابل صفقة نفط مع الشَّاه، فغرقت مهاباد في بحر المصالح الدوليَّة المُتشابكة من غير أن تجدَ دَولة واحدة تساعدها. والتجربة الخامسة: هي آرارات بعد إعلان إحسان نوري باشا ثورة في مناطق جبال آرارات التركيَّة عام 1930 باسم «ثورة آغري». واستنادًا إلى ما تقدَّم فإنَّ جديد المواقف بمسار العلاقة بَيْنَ بغداد وأربيل تدعو لِلحذَر والقلَق معًا؛ جرَّاء قرار القيادة الكرديَّة بمقاطعة الانتخابات المُقبلة، والتَّلويح بانسحاب الأكراد من العمليَّة السِّياسيَّة؛ جرَّاء غياب موقف حكومي واضح من مسار العلاقة مع أربيل الَّتي يكتنفها الغموض وعدم الثِّقة، ومفتوحة على جميع الخيارات.

ونخلص بالسؤال: هل تستخلص القيادة الكرديَّة الدُّروس من تلك التجارب الَّتي شهدتها خلال المئة عام؟ أم أنَّها تدفعُها لِلبَحثِ عن خيار جديد يجنِّب العراق وكردستان مآسي وحروبًا سيكُونُ الخاسر فيها العراق ومستقبلُه، لا سِيَّما أنَّ دوَل الجوار الكردي تقف بالضدِّ من تكرار التجارب السَّابقة، وتؤسِّس لِمرحلةٍ جديدة قاعدتها الثِّقة والشَّراكة في إطار العراق الموَحَّد؟ لأنَّ الرِّهان على الخارج طبقًا لِمواقفِ دوَل الجوار وحتَّى الدوَل الكبرى غير مضمون ومتوافر في الوقت الحاضر، رغم أنَّ العامل الخارجي خذَل وأفشَل حلم الدَّولة الكرديَّة سابقًا؛ لأنَّ الواقع وليس الآمال ما ينبغي أن يدركَه الأكراد في أيِّ خطوة يخطوها في ظلِّ حقلِ الألغام الَّذي يَسيرون فيه. ولِتفادي انفجار حقول الألغام فإنَّ الاستدارة نَحْوَ الحوار وحلِّ القضايا العالقة مع بغداد وفق رؤية لِعلاقةٍ جديدة هي مَن تؤسِّس لِبناءِ الثِّقة والشَّراكة والعيش المشترك بعيدًا عن الإملاءات الخارجيَّة الَّتي تتقاطع مع تطلُّعات العراقيِّين عربًا وأكرادًا في بناء وطن موَحَّد تسُودُه العدالة ويحكُمه القانون الَّذي يضْمَن حقوق الجميع.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *