مراكز أبحاث السياسة في العالم العربي، قليلة. و”مفيدها لا جديد فيه، وجديدها لا فائدة فيه”. المفيد منها يستخلص أفكاره مما تقدمه مؤسسات البحث الغربية. أما تلك التي تحاول أن تقدم شيئا جديدا، فإنها تتعثر بالعوائق التي تضعها لنفسها، إلى جانب العوائق التي توضع أمامها. ما يجعلها عاجزة عن تقديم رؤى تصلح لتوفر مساهمة جادة في “صناعة القرار”.
هذه المراكز تتطلب تمويلات. والتمويلات تشترط التبعية في العالم العربي. إذ لا يعجب الحكومات أن تكون هناك مراكز “تفكير” تفكر بمعزل عمّا تفكر هي به، حتى ليجوز التساؤل: إذا كنت تريد أن تفكر لنفسك، فما حاجتك لمراكز أبحاث أصلا؟
تلجأ بعض الدول العربية إلى الاستعانة بخبراء أجانب، لتقديم أفكار ورؤى وتصورات تصلح لتقويم الخيارات السياسية وتقييم نتائجها، أو في الأقل تقليب وجهات النظر بشأنها.
الخبراء الأجانب، عادة ما يحظون بالحصانة من جانبين، الأول، هو التعاقد على خدمات الاستشارة، وهو ما يوفر ضمانة للمستشار بأن عمله ليس خاضعا للأهواء أو لتقلبات الأمزجة، لاسيما بشأن محتوى الاستشارة نفسها. والثاني، هو أن كونه أجنبيا يجعله بمنأى عن “الضغوط الأمنية” (أو المخاوف منها، على الأقل) التي قد يخشاها المستشارون المحليون.
هذه الحصانة توفر له القدرة على أن يقدم مقاربات حرة، غالبا ما يعجز عنها المستشارون المحليون.
هناك، بطبيعة الحال، حواجز تحول دون أن تجعل الاستشارات على صلة مباشرة بماكينة صنع القرار، إلا أن عصفها الذهني يظل عنصرا حيويا بالنسبة إلى تلك الماكينة.
هذه آلية نادرا ما تتاح لمراكز الأبحاث العربية. هناك عدد محدود منها، يؤثر بمقدار محدود، وشخصي أحيانا، ويتصرف في ما عدا ذلك وكأنه “دار نشر”، وليس كمركز أبحاث. وبالتالي، لا يمكن اعتباره شريكا فعليا في صناعة القرار، أو مساهما فعليا في التوصل إلى خلاصات تحدد وجهات مختارة لمعالجة ما قد ينشأ أو ما قد يلوح في الأفق من الأزمات.
بعض مراكز الأبحاث تحاول بالفعل أن تقدم تلك الخلاصات، إلا أن صانع القرار كثيرا ما لا يأخذها بعين الاعتبار. يفضل أن يفكر لنفسه بنفسه. لأن ذلك أريح له من “وجع الدماغ”، الذي قد يتطلب قراءة أوراق بحث “معقدة” تضم جداول وأرقاما، يعتقد أنه بغير حاجة لها، وأنه “يفهمها وهي طايرة” من الأساس.
لقد مرت على المنطقة خلال الأعوام الماضية مجموعة أزمات كبرى. في الواقع، فإن سلسلة الأزمات لم تنقطع عن بعضها أصلا، منذ الغزو الأميركي للعراق إلى اليوم، أو حتى قبل ذلك.
الحروب في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان، صارت تلد الواحدة منها الأخرى. إسرائيل لم تكفّ عن أن تقدم تحديات جسيمة للمنطقة بأسرها. مسارات السياسات الإسرائيلية وانعطافها نحو اليمين، فاليمين المتطرف، فاليمين النازي، رسمت مؤشرات كان من العقلاني والممكن تماما توقع ما سوف تؤول إليه. كان من الممكن أيضا التصدي المبكّر لها. ولكن ها نحن هنا الآن، نواجه حربا همجية، لكيان مريض، مذعور، ويحظى بالغطاء لارتكاب أيّ مستوى يشاء من الجرائم الوحشية.
هذا على مستوى السياسة الخارجية. ولكن الحال أسوأ على مستوى السياسات الداخلية. التغير المناخي ليس “اكتشافا” جديدا. حتى ليجوز التساؤل: كيف انتهينا إلى جفاف ونقص في موارد المياه لندرك حجم المعضلة، بعد أن حلّ الجفاف؟
لا يمكن للمرء أن يلوم العراق على يباس دجلة والفرات. فهذا البلد وقع تحت براثن خليط من الغزاة والعصابات، جعلت “فكرة” وجود “حكومة” فيه، مجرد افتراض هزلي. ولكن، كيف لا تلوم البلدان التي تواجه انكشافا صارخا في أمنها الغذائي؟ كيف لا تلوم حكومات غنية، بينما تعاني شوارعها من الخراب، أو تفشل في تشجير المناطق الحضرية لمواجهة عواصف الغبار؟ أو لا تعرف كيف ومن أين تحصد المياه من الأمطار، على أقل الأقل؟
ولئن كان بعض التحوطات الفكرية والبحثية المطلوبة ينطوي على “سياسة” مما يثير الحساسية، فكيف لا يتم بحث الخيارات المتعلقة بالوقاية من موجات أوبئة تنطلق مما تعلمناه من وباء كورونا؟
لا توجد “سياسة” في هذه التحوطات. والخبراء المعنيون بها، هم في الغالب نخبة علم مجرد. ولكن لم يحدث أن اجتمع أيّ مركز للأبحاث في العالم العربي لكي ينظر في المخاطر، أو يُنظّر للخيارات والتحوطات الممكنة. ما من أحد يعرف الآن، ماذا سيحل بصلاته الخاصة بالاقتصاد العالمي إذا ما عادت سلاسل الإمداد لتواجه ما واجهته من انقطاعات.
“القرار الرشيد” إنما يُصنع من خلال مراكز أبحاث تتمتع بالحصانة والقدرة على التفكير “خارج الصندوق”، وتستطيع أن تعرض بدائل جريئة، على أساس معطيات صارمة الدقة. ولكن ليس هذا فحسب. إذ ما من قرار من دون عواقب، أو تقديرات مضادة. كل هذا يجب أن يؤخذ بالحسبان. تلك المراكز يمكنها أن تقدم لصانعي القرار خارطة طريق واضحة لمسارات القرار، تتضمن الشيء وعواقبه وسبل مواجهتها، انطلاقا من الكلي المنظور، أو المرغوب فيه، إلى الجزئيات غير المنظورة، أو التي تعترض الطريق.
أحد أفضل الوسائل التي يمكن لمراكز الأبحاث العربية أن تجعلها قادرة على تحقيق الفائدة من وجودها هو أن تحظى، ويحظى باحثوها بالحصانة، المالية، والأمنية، والفكرية. وذلك مثلما يحظى المستشارون الأجانب بها.
وأحد أفضل وسائل “رد الجميل” لهذه الحصانة هي أن تكون الاستشارات والأبحاث التي تختص بصنع السياسات الحكومية، مكرسة لمن تعنيه، دون سواه. مغلقة بقفل التعاقد قبل الثقة.
يغرق العالم العربي بعدد لم يُحص من المفكرين والخبراء والباحثين المرموقين، في مختلف مجالات الاختصاص. هؤلاء كنز لا تعادل كل كنوز المال قيمته على الإطلاق.
تشمل الخبرات المتاحة كل أوجه العلوم والمعارف. والكثير منها تلقّى تعليما راقيا، وخاض في ممارسات نظرية وعملية مرموقة، وبعضها تولى مسؤوليات حكومية ودبلوماسية أتاحت له الفرصة لتجعل أفقه واسعا.
هذه الثروة، لم تجد، حتى الآن، من يستوعبها، أو يكتنزها (إذا شئت عبارة أدق). لا مراكز الأبحاث المتاحة، تمكنت من جمعها أو تأطيرها في سياقات عمل مفيدة وجديدة، ولا الحكومات انتبهت إلى ما يمكن أن تجنيه إذا ما حصلت على خارطة طريق للقرار الصحيح، أو أدركت حجم الفائدة من تلافي القرار الخطأ.الذين يراهنون على أنهم يفهمونها “وهي طايرة”، عادة ما تأتيهم المصاعب والمصائب “وهي طايرة” أيضا.