إعادة الهيبة للقراءة

إعادة الهيبة للقراءة
آخر تحديث:

عبد الرزّاق الربيعي
حين دخلتُ أحد النوادي الصحيّة رأيتُ عند جهاز الجري رجلٌا أجنبيٌّا  يمارس الرياضة دون أن يسند يديه على الجهاز، محافظاً على توازنه، بصعوبة، فشدّني منظره، وقادني الفضول لمعرفة:أين يضع يداه، وحين اقتربتُ وجدت بين يديه كتابا، وهو مشهد بهرني، وكان يستحق منّي  أن أوثّقه بصورة، لكنّني خشيتُ الاعتداء على خصوصيّته، في مكان ليس عامّا، كان الرجل مستغرقا بالقراءة، قدماه تجريان، وجسده يجري، بينما عيناه تقعان على الكتاب، ويظهر  في غاية المتعة.

خير جليس وأفضل أنيس

 قد يبدو هذا المشهد مألوفاً في أوروبا، فالكتاب ملازم للأوروبيّين، في القطارات، والطائرات، وحافلات النقل العام، والمقاهي، والشواطئ، ورغم أنّ الهواتف الذكيّة بدأت تصاحبهم، في رحلة القراءة، بتلك الأماكن إلّا أنّ الكتاب ما زال “خير جليس” لهم، وأفضل أنيس، بينما نمضي معظم أوقاتنا عندما نحلّ بالأماكن نفسها، بالكلام، أو البحث عن أيّ شيء يشغلنــا !!. قبل سنوات قليلة قرأتُ خبرا عن إعلان نشرته مكتبة بلندن حدّدتْ به موعد صدور ترجمة إنجليزيّة لرواية يابانية عنوانها  “1984”، للكاتب الياباني هاروكي موراكامي، و ليلة صدورها وقف القرّاء طوابير بانتظار أن يضمن كلّ واحد منهم  الحصول على نسخة من الرواية التي تتألّف من1600صفحة، وتتحدث عن الحب والوحدة، والعوالم السريالية، والشخصيات الغامضة. كما يقول الخبر، مؤكّدا ”  حين صدرت طبعتها  اليابانية في الولايات المتحدة الأميركية، بيعت جميع النسخ خلال يوم واحد، وبيعت مليون نسخة منها خلال شهر، وفي فرنسا طبعت 70 ألف نسخة في شهر واحد!!”آنذاك تساءلتُ: لو ترجمت تلك الرواية للغة العربية، فكم شخصا سيذهب لمحلات بيع الكتب ليقتنيهــا؟
بالتأكيد سيكون الجواب صادما، ومحبطا، فالمسألة مختلفة، لأنّ ظروف التنشئة مختلفة، فالأوروبيّون يعلّمون الأطفال بالمدارس الذهاب إلى المكتبات العامّة منذ الصف الأوّل الابتدائي، كما حصل مع ابنتي”دجلة” ، بل هناك دول تعلّمهم قبل ذلك، فحين زارتني عائلة صديقي الشاعر عدنان الصائغ، بمسقط ، قبل شهور قليلة، همس حفيده”آدم” الذي لم يبلغ  الخامسة من العمر بعد، بأذن والده : بابا، متى نذهب للمكتبة؟لأنّه يعرف إنّ زيارة المكتبة واجب اعتاد عليه، في لندن حيث تقيم الأسرة، مدرج من ضمن برامجه إن تكن اليوميّة، فالأسبوعيّة، وهو بهذا العمر المبكّر!.
حيوات متعددة                    

لقد أدرك العالم المتحضّر  أنّ السبيل الوحيد للتقدّم يأتي عن طريق القراءة، فمن الكتاب تشعر الأنوار، لتفتح نوافذ المستقبل، فالقراءة تنمّي القدرات التخييليّة للإنسان، وتعمّق الوعي، وتثري الأفكار، وتقوّي المشاعر، وتجعلنا نفهم أنفسنا، والآخر بشكل أفضل، وتجعل الذهن يتفتّح ، وفوق كلّ هذا، فهي متعة، فحين سئل أحد  الحكماء لماذا اعتزلت الاختلاط بالناس، وانصرفت إلى الكتب، أجاب ” صحبت الناس، فملّوني، ومللتهم،وصحبت الكتاب فما مللته، ولاملّني”، وتضفي القراءة على النفس السرور والبهجة، وتجعل الإنسان يحلّق في فضاءات، مفتوحة بلا حدود،  أكثر رحابة، وجمالا، يقول  حكيم آخر” لو عَلِم الملوكُ وأبناءُ الملوك ما نحن فيه- أي من السعادة والسرور – لقاتلونا  عليه بالسيوف “.
وإذا كان ميلان كونديرا يرى أنّ الإنسان حين يدرك انّه  لا يملك إلا حياة واحدة، يجد نفسه  حائرا، لا يعرف ماذا عليه أن يفعل بهذه الحياة الواحدة، وهي حيرة يُشبّهها بـممثل  يظهر على الخشبة، دون أيّ تمرين مسبق، فالعقاد يرى انّ الحلّ الوحيد يكمن في القراءة،  فهي التي تعطيه  أكثر من حياة،  بل حيوات متعدّدة، لأنّها تختزل تجارب الأمم السابقة ، وتضع إشارات للمستقبل ليدخله من أوســع أبوابــه.
 يوم عالمي للكتاب
 
من هنا جاء اختيار اليونسكو لـ23 نيسان من كلّ عام ليكون اليوم العالمي للكتاب، وحقوق المؤلف في مؤتمر عقد بباريس في العام 1995 ، وجاء اختيار هذا اليوم، دون سواه  لأنّه وافق ولادة، ووفاة عدد من الأدباء العالميين الكبار أمثال: ميغيل دي سرفانتس ووليم شكسبير والاينكاغارسيلاسو دي لافيغا، وموريس درويون، وهالدور ك. لاكسنس، وفلاديمير نابوكوف، وجوزيب بْلا، ومانويل ميخيا فاييخو،  وذلك بهدف “تشجيع القراءة بين الجميع وبشكل خاص بين الشباب وتشجيع استكشاف المتعة من خلال القراءة، وتجديد الاحترام للمساهمات التي لا يمكن إلغاؤها لكل الذين مهدوا الطريق للتقدم الاجتماعي والثقافي للإنسانية جمعاء”.واليوم ونحن نرى تراجع مبيعات الكتب في عالمنا العربي، وهدر حقوق المؤلّف، أجد بمرارة إن  حق المؤلف يكمن في قراءة كتابه فقط، وليس في إعادة طباعته من دون إذن منه، كما هو حاصل من فوضى في نشر الكتاب العربي! لدرجة أنّ أحد الأصدقاء فوجىء بكتاب له أعيدت طباعته من إحدى دور النشر العربيّة، عندما كان يتجوّل في أحد معارض الكتب، وعندما سأل الناشر عن سبب عدم أخذ موافقته  بالطباعة، كما هو حاصل مع  دور النشر العالميّة، أجابه: لم نعرف عنوانك لأخذ موافقتك، وهو عذر أقبح من ذنب مع وجود وسائل التواصل الحديثة، وانتشارها ، وسهولة العثور حتى على الطير ان أفرد جناحيه في السماء السابعة !
وهنا لابدّ أن نسعى لوضع حلول لتراجع مبيعاته، وقبل ذلك ينبغي علينا إعادة  النظر بعلاقتنا بالكتاب، ونضع أسس علاقة بين النشء الجديد والكتاب تبدأ من المدرسة، ولا نغفل هنا دور الأسرة، ومكتبة البيت التي فتحنا أنظارنا عليها حين نشأنا،  فعندما نجعل العلاقة مع الكتاب يوميّة، وحاجة نفسيّة، نكون قد نجحنا بمسعانا لإعادة الهيبة للقراءة، وهو ما تصبو إليه اليونسكو في احتفالها بهذا اليوم. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *