التي لا تُصدّق بالموت

التي لا تُصدّق بالموت
آخر تحديث:

ياسين طه حافظ
هذا موضوع مغلق وهو عديد المفاتيح! المصريون القدامى تركوا حلياً ونقوداً وأطعمة لموتاهم، هم لا ينكرون الموت إنما يؤكدون أنبعاث الروح وعودة الحياة وأنهم على يقين تام من موته وقد حنطوه وائتمنوه مرقداً فخماً ينتظر يوم سفره إلى عالم الأرواح أو الحياة الثانية. لا السومريون ولا البابليون فعلوا ذلك . هم لم يشككوا أبداً بالموت، بل مبكرين انتبهوا للمحنة وعبثاً حاولوا النجاة منها، كما أن الكثيرين منا اليوم يؤمنون بخلود الارواح وأن الموتى يزورونهم أحياناً في الإحلام، هذا بثياب نظيفة ومكان حلو وذاك سيء في رأيهم ومقصر في حقوق الله والناس، يرونه في حال لا تسرّ. وهكذا تختلف الرؤى والتفاسير … وأنا فضلاً عن هذه الأمثلة أرى أن أقامة النصب للذكرى، مثلاً، تتضمن أحساساً بوجود حي لصاحب النصب أو الذكرى، وأن التكريم ليس لأعماله المجيدة حسب ولكن لإرضائه وأبهاجه هو أيضاً. على كل حال، هذا موضوع أتركه لمتخصص معنيّ بعقائد الناس بعد الموت.
دفعني لبدء كلامي بهذا التساؤل ما رأيته وأنا أغادر المنزل الحجري الأصفر في البلدة الأوكرانية المستقرة جوار الدنيير العظيم وفي حمايته وتقبع في غابة لا أدري أين تنتهي .
كانت حقائبنا في الباب بانتظار السيارة تأتي تقلنا لمحطة القطار، نحن نحاول أن نرى ما نستطيع من المشاهد في دقائق الرحيل الأخيرة. فوجئنا في ذلك الصباح الباكر بامرأة تدفع عربة خالية أو فيها ما لا نراه. هي عربة مما نختاره لحمل الأطفال في النزهات، ماذا كان مكوماً فيها؟ لم أتأكد من ذلك ولم أسأل .
وقفت بكياسة سيدة فقدت مجدها وباتت، كما تبدو، معدمة بعدما فقدت حضورها الاجتماعي وغادرت الثروات، وجهها جميل، ملامح واضحة القوة والتعبير وان لها جمالاً فخماً ما استطاع الزمن أن يقتحم قلاعه ويمحوه، ما تزال جميلة، قوية، صعبة وبليغة الكلام. قلت لولدي لو تترجم لي كل ما تقول، أرجوك لا تهمل شيئا! جملها لا تنهال أنهيالاً بل تأتي مثلما سيد قوم يتكلم. لكن تصاعدت نغمة صوتها وسرعته كما لو استاءت منا، من لامبالاتنا بما تقول : «انتم يجب ان تصغوا جيداً لمن يتكلم، كانوا هنا، أين غابوا؟ هم لم يموتوا. ما معنى ماتوا؟ أنا أراهم هنا وفي «السنتر» والكنيسة ولكن مفجأة يختفون. أين يذهبون؟ كنا نرقص معاً ونمضي في الباص إلى محطة القطار وهم ناس تعرفون أسماءهم وأشكالهم وأين يعملون. وأنا واحدة منهم .. وبدأت تختلط الجمل والأسماء والأمكنة والتواريخ. وما حدث لهذا وكيف كُرِّمَ ذاك وأنها كانت ترى فلان وعشيقته يلتقيان، لكنها صارت تراها ولا تراه ثم اختفت هي أيضاً لكن ألمحها تخطف بسرعة لا تريد أن أكلمها! هو كان يسكن هناك يدخل ويخرج من تلك الباب البيضاء، تلك، هل ترونها؟ وإذا كنتم نسيتم، أنا لم أنس. هو طويل يُرى من بعيد ومعطفه أسود وهو ينزل من الباص في الرابعة والنصف عصراً وكنت ألتقي به ويحييني بابستامة، طيباً كان، وماذا تريدون منها، دعوها تعش كما تحب، ربما تركت المدينة، ولكني المحها أحياناً، أخر مرة كانت تأكل في المطعم، المطعم موجود، لكن صاحب المطعم أيضاً أختفى ولا يظهر لي إلا مرةً أو مرتين في الشهر، كلهم لا يتكلمون، وإذا تكلموا فبضع كلمات ويختفون، أين يذهب الغائبون؟ أنتم تقولون ماتوا. ما معنى ماتوا؟ أنا أراهم وأرى ما يحملون بأيديهم وأسمعهم أحيانا يتكلمون وهم يسمعونني، يردون علي، يكلمونني أحياناً، وأن ألتقي بهم في الباص وفي طريق المدرسة يصحبون أطفالهم، بعض الأطفال غابوا ايضاً، هذه مشكلة، أنا متأكدة أنهم هنا ولم يبرحوا بعيداً، لكن لماذا لا ألتقي بهم؟ و»إيرا» الجميلة، الا أحد رآها؟ أين ذهبت إيرا؟..».
هي امرأة مجنونة، قال ولدي، وتبحث في طرق البلدة عن ناس تعرفهم، أصدقاء وأقارب وجيران موتى منذ سنين . دعها تتكلم هي لا تصمت حتى تنهي كل أسئلتها والقصص والأسماء والوجوه والأمكنة، لا ترد عليها أنتظر قليلاً وستنصرف، لكنها وقد رأت صمتنا صارت كمن يشتمنا: ارتفع صوتها أين هم؟ لا يعقل أنكم جميعكم لا تعرفون، لكن هذا عيب تتركونني أبحث عنهم ليل نهار، تقولون ماتوا، ما معنى ماتوا؟ هم غابوا عنكم لأنكم لا ترونهم، أنتم لا ترون كل شيء! يوما سترونهم وستتأكدون من صحة كلامي، لا وداع!..
حين أنصرفت راح ولدي وأصدقاؤنا يضحكون من خبلها من هذا الخلط في الوجوه والأسماء والأزمنة، لكن صار الكلام يتسم بالعطف على هذه المسكينة التي تبحث في البلدة عن أصدقائها ومعارفها الموتى.
أنا أخذني الموضوع إلى تأمل أخر، إلى الحس بالوجود وعدم ضياع المرئي، الشعر والدين والإدراك الروحي، كلٌ يؤكد ذلك ويؤكد على تنقُّل الموجود في أقانيم الذاكرة وحضوره من بعد في الموروث والسلالات: لكن هذا بعيد عن حدود عقل هذه المرأة التي لا تصدق بوجود الموت، ربما هي بتفكير، بقوة أرادة، يرفض، تريد مجابهة هذه القوة، الغاشمة وأن تلغي فعلها، لا تصدقه وترفض الأقرار بوجوده! قوة الحياة فيها أكبر من قوة حضور الموت ..
وسواء كانت مختلّة العقل أو فيلسوفة أو رائية غير معترف بها، هي شخصية متميزة لا تريد أن تستسلم لحقيقة الموت، موت الأصدقاء والأقارب، من تحبهم أو من تعرفهم عن كثب.أسأل الآن : هل مربك أم جميل إلا نصدق بوجود الموت؟

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *