العراق.. الخيول العليلة لا تحمي كرامات أو أوطانا

العراق.. الخيول العليلة لا تحمي كرامات أو أوطانا
آخر تحديث:

 بقلم: د. ماجد السامرائي 

في عام 2006 وقبيل الانتخابات العراقية الأولى اجتمع في عمان مجموعة من السياسيين العراقيين المتطلّعين إلى بناء بلدهم بعد الخراب الذي حصل بسبب الاحتلال الأميركي، وكان محور النقاش يدور حول مدى جدية دخول العملية السياسية من عدمها، في ظرف كانت فيه مثل هذه الدعوة من خارج القوى الرئيسية التي استلمت السلطة من الحاكم الأميركي بول بريمر برئاسة إياد علاوي تشكل خرقا “للثوابت الوطنية ودعما للاحتلال”، بل هناك بعض المراجع الدينية السنية حرمت على جمهور المجتمع السنّي دخول العملية السياسية، ترشيحا أو تصويتا، ما خلق فراغا استغلته وملأته قوى الإسلام الشيعي لصالح هيمنتها اللاحقة.

أصحاب فكرة الدخول القوي لمسرح العملية السياسية برّروا بأن المقدرة في العمل السياسي تكمن في كيفية الحصول على نقاط أولية إيجابية لصالح المشروع الوطني العراقي، وإن مقاطعة العرب السنة ستعيد معادلة مقاطعة زعماء الشيعة لحكم العراق الأول عام 1921 بشكل معكوس. وقف أحد حضور ذلك الاجتماع متحمسا للدخول في تلك الانتخابات متذمرا من الرافضين المتشددين قائلا “إن أصحاب الدشاديش البيضاء لا يريدون أن تتسخ بالعملية السياسية، لكننا سندخلها ولا يهمنا اتساخها، وسندخل كفدائيين سياسيين من أجل الحصول على الحد الأدنى”. مرّت عشر سنوات على ذلك السياسي الناشئ بعد خوضه ميدان الزعامة السنية لكنه لم يقدّم لأهله الحد الأدنى من الحقوق، وهو واحد من بين الذين يجددون لأنفسهم الزعامة في تحالفات اليوم.

صحيح أن الوقت الحالي لم يعد مناسباً لمناقشة قضية المقاطعة للعملية السياسية من عدمها، لأن هذه المرحلة قد انتهت منذ عشر سنوات وبعد سبع سنوات على الرحيل الرسمي للاحتلال الأميركي ودخول الهيمنة الإيرانية على العراق مرحلة النضج وقطف الثمار. المزاج السياسي في العراق اليوم أصبح مختلفاً والمعادلة أكثر صعوبة وتعقيدا، فهي لا تدخل في باب الأيديولوجيات والأفكار رغم أنها هي التي تقود إلى المواقف السياسية، ولم يعد مهما أن يكون هذا السياسي سنيّا أم شيعيّا، رغم عمل السياسيين الشيعة على عدم التفريط بحكمهم للعراق.

المقاييس النافذة اليوم هي الترجمة العملية ما بين محبّي العراق وما بين محبّي أنفسهم وأطماعهم، وما بين نظيفي الأيدي، وما بين من يقدّمون مصالح الغير الخارجي على مصالح وطنهم وشعبهم. وهي كذلك تكمُن في قدرة من لم يتورّطوا بمحرمات الكذب على الجمهور والسرقة على وضع حسابات دقيقة لما يؤدي لدخولهم شوط الانتخابات منفعة وخيرا للناس، وإلى مدى سيكون هناك مكان مسموح لهم في العملية السياسية هذا العام. وهل أن تجديد السياسيين الحاليين لأنفسهم يمكن أن يخترق الجمهور المحروم من أبسط الخدمات الإنسانية، ويتجاوزون عقبة المحاسبة القانونية والقضائية على المحظورات السياسية والأخلاقية والقيمية وتورّطهم بالسرقة، ويدخلون مغامرة التنافس الانتخابي مجدّدا بعد تعديلات في مظاهر اللعبة التي أتقنوا فنونها خلال السنوات الأربع عشرة الماضية.

لقد سمح واحد من أولئك الزعماء، وهو رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، ببقاء الحال على ما هو عليه حتى عبور العتبة الانتخابية، لأنه لا يريد الدخول في معركة يعلم أنه خاسرها لكونه واحدا من أبناء البيت الحزبي الشيعي، ومنصبه الرسمي لم يغيّر مكانته وموقعه الحزبي الذي لا يبدو إنه قادر على الخروج منه. لكنه يلعب على المنجز الحكومي في عهده في القضاء على العدو الإرهابي داعش، معتقدا أنه مسموح له أيديولوجيّا وحزبيّا أن يدخل المنافسة الديمقراطية دون المساس بتلك القواعد، ويرى نفسه في ساحة الاصطفاف الناقدة للفساد والانفتاح على الآخر عبر ما يشاع حول قائمته الانتخابية، وهو بذلك لا يخترق قواعد العمل السياسي الدعائي الجديد لزعيم حزب الدعوة نوري المالكي الذي هيمن على قائمته التقليدية (دولة القانون) ولديه مناصرون من بين السنة والأكراد.

حيدر العبادي حريص أيضا على عدم اختراق موجبات العلاقة بإيران رغم ما يقال إن موازينها في الولاء التام ليست ثقيلة مثلما هي عليه مع المالكي. وهو مجال مسموح به من قبل زعيم إيران ولي الفقيه خامنئي لكن المعركة انفتحت داخل البيت الشيعي، وهي تتطلّب مهارة خاصة من قبل المتنافسين، فهم من بيت طائفي واحد لا يجرؤ أحد منهم على الخروج عن طاعة أحكامه في العلن، وفي السرّ يتقنون فنون المناورة واللعب للفوز.

ولهذا نجحت تلك الخطوة داخل حزب الدعوة بإعطاء الفرصة للزعيمين من دون عنوان رسمي لحزب الدعوة لكي يحافظا على الولاء الأيديولوجي، وبإشراف كامل من الحزب ذاته. وهكذا خرج الاثنان بقائمتين منفصلتين خسر فيها المالكي انضمام الحشد الشعبي إلى قائمته والذهاب مع العبادي، لأن إيران تريد ترويض الفائز الشيعي المقبل وتتوقع أن يكون العبادي لهذا منحته ولاء الحشد الشعبي، وهي تؤمن أنّ من يريد أن يصطاد سمكة كبيرة عليه أن يعطيها طُعماً كبيرا.

وكانت النتيجة الأولية لتلك الخطوات التمهيدية هي الحفاظ على طائفية المشروع الإسلامي دون تغيير يذكر، ومن كان يراهن على خروج العبادي إلى العباءة الوطنية قد خسر رهانه، وكجزء من المناورة التي لا يصنعها العبادي وإنما القوة المهيمنة على ذلك المشروع السياسي.

المعركة انفتحت داخل البيت الشيعي، وهي تتطلب مهارة خاصة من قبل المتنافسين، فهم من بيت طائفي واحد لا يجرؤ أحد منهم على الخروج عن طاعة أحكامه في العلن، وفي السر يتقنون فنون المناورة

وذات اللعبة تجري داخل الكتل السنية، مع إضافة كتلة إياد علاوي التي ضعفت كثيرا بعد عام 2010. لقد وجد أولئك الشيوخ أن شعارات “المذهب والطائفة” لم تعد جاذبة، ولا بد لهم من تغييرها إلى الموجة التي تيقنوا بأنها الأكثر رواجاً منذ عام 2010 وهي الشعار العابر للطائفية فاندفعوا إليه من دون انتباه إلى أن هذا الشعار يتناقض مع أيديولوجية الإسلام السياسي القائمة على ولاء الطائفتين السنية والشيعية. فأطلق الزعيم الديني عمار الحكيم حملته في الدعوة إلى ما سمّاها الجبهة الوطنية، أو دعوة حيدر العبادي إلى شعار قائمته “النصر” العابرة للطائفية. علما بأن التوافق مستمر بين الحزبين الدعوة الشيعي والإسلامي السني منذ عام 2003 ولحد اليوم. لكن مثل ذلك التوافق لم يكن قائما مثلما يحصل اليوم في انتقال دعاة “عبور الطائفية الليبراليين” إلى مشاركين في تحالفات مع قادة الحزب الإسلامي العراقي.

وكجزء من تحصينات شيوخ الأحزاب الكبيرة وكرادلتها فإنهم اليوم لا يتيحون فرصة للصغار أن يدخلوا ملعب المنافسة، دورهم المسموح هو ملء ساحة الولاء لكي توزع لهم بعض الفتات التي ستًحرم ممن لم يتقن متطلباته.

لعبة أخرى تتراقص في الموسم الجديد هي إن قصة التوافق مع زعامات الشيعة والسنة والأكراد قد أصبحت من الماضي، لتحلّ محلها الأغلبية السياسية أي أصحاب الأصوات الأعلى في البرلمان ومعروفة تلك القوى صاحبة الغلبة السياسية. وقد برز ذلك في قضية تأجيل موعد الانتخابات، حيث انفرد حزب الدعوة وحلفاؤه بقرار عدم التأجيل لإقصاء زعامات سنية لم تعد صالحة من وجهة نظرهم. والسؤال المطروح هو أين حصة المواطن من كل فصول المهرجان الجديد.

ذات الوجوه وذات القوى التي أنتجت دخول داعش للعراق والنزوح والفقر والجوع والفساد والبطالة وتفكيك المجتمع وعسكرته تعود مرة أخرى عبر التكتيك والمناورة وتعاهد السلطة على العودة إليها دون السماح لآخرين بالمنافسة. هذه الخيول المثقلة بالفشل كيف لها أن تحمل هموم المواطن، وتصون كرامات الناس وتجلب الخير لأهلها بعد أن أصاب بعضها الجرب الذي مسّ أحشاءها الداخلية؟ في تقاليد الخيل في الريف الأصيل يتطلب ذلك قتل الخيل المصابة لكي لا ينتشر الوباء على الجميع.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *