المثقف خارج النسق

المثقف خارج النسق
آخر تحديث:

علي الحسيني 
1
مفهوم المثقف، يرتبط جذريا بأرومته النقدية، وقدرته على تأسيس مواقف خارج النسق؛ نسق السلطة “سلطة الحكومات، الأحزاب، الجماهير، الطوائف، المرجعيات الدينية، التاريخ، الجغرافيا”، وأية سلطة أخرى، بما فيها سلطة “الأمة”، مهما كانت على صواب. 
إن أفكار وآراء ومواقف هذا النوع من المثقفين، الذي اسميه بـ”المثقف خارج النسق”، تكمن أهميتها في أنها تكشف عن طرق السيطرة على الوعي؛ وعي الجماعة، قبل انتاج مجتمع قطيع، مهيمن عليه. مجتمع بوعي زائف معاد لأية تغييرات من شأنها أن تقلب الوضع القائم. اهتماماته وأذواقه، وكل شيء فيه، مسخر لخدمة “النسق”. في حين أن المثقف خارج النسق، وظيفته الأساسية، تنمية الوعي بالأنا، وتوجيه الاهتمام إلى ما هو جوهري وحقيقي، بعيدا عن إملاءات انفعال الجماعة، وتوترها. فهو يرى ما لا تراه في الأزمات.
هو لا يمتدح أفعال “الأمة” أو يبرر سلوكها، وان كانا شرعيين. لأنه يدرك أن هناك دائما محطات وأفعال يقدم عليها النسق، إن تركت بزعم شرعيتها أو قبولها من قبل الرأي العام، ستفضي إلى نتائج فضيعة. النسق يدنس عقل وروح المثقف، لذا هو يشتغل على هدم نمطيته، ويحاول إجباره على رؤية ما يستفزه ويستمع إلى ما يغيظه.
 2
المثقف خارج النسق، معارض، مقامه ومستقره في المعارضة. 
ناقد لاذع، لا يعبأ بالحاضر، إلا بوصفه محطة استشراف للمستقبل، لذا لا يؤمن بالمداراة، ولا يعترف بـ”الأولويات” فهذه من مهام السياسي.
هو الصوت النشاز؛ النشاز بمعناه المختلف، المغاير لتفكير الجماعة، الملة، الطائفة، الحزب، المؤسسة الدينية.
المثقف خارج النسق، مستفز بطبعه، يستفز الجميع، حتى نفسه. هو لا ينتمي إلا لوعيه، وضميره، العابرين للانا. شكاك، لا يركن إلى الروايات الرسمية، ولا يصدق محتواها.
لا يعترف بخطوط حمرا، ولا ثوابت، وضعها “علية القوم وسادتهم” وأشاعوها بين السواد الأعظم.
3
هو ليس بطلا ولا مناضلا ولا زعيما، ولا حتى نبيا.
المثقف خارج النسق، لا يصفق لسياسي، “انتصر” لحق من حقوق شعبه، بل ينتقده عن صمته وتجاهله الحقوق الأخرى.
ليس مداحا، وان كان الممتدحون (بفتح الدال) على حق وصواب.
المثقف، لا يعمل على تحشيد الشعوب والجماهير وسوقها إلى الحروب. هو يساعد الناس على الإحساس بالحياة.
هو معني بإيقاف الدم ومساءلة الجهات التي تقف وراء طوابير الجثث القادمة من جبهات الموت.
لا يطوب الشهداء ولا يكتب برقيات تعزية ولا يدبج مقالات ملحمية عمياء أو يلقي شعرا حماسيا يدفع المزيد من الناس إلى المقبرة.
لا يمتدح “انتصارا”، بل يسأل ويطلب محاسبة المسؤولين عن الهزائم والانكسارات، عن الذين يتاجرون بحياة الآخرين، ويتلاعبون بها، وسط أناشيد تجعل من الناس مجرد بيادق بيد السياسيين ورجال الدين في لعبة مميتة.
4
المثقف ليس ضمير الأمة، ولا عقلها، ولا يصطف معها أو يقودها إلى مشتهاها. لا يعني ذلك، انه لا يدافع عن حقها وكرامتها أو لا ينتصر لإنسانيتها وحياتها، بل يفعل ذلك كله، ويبني مواقفه تجاهها، من موقعه هو، الموقع الذي يزعج انفعالها، فورتها وهيجانها. وإلا لن يبقى منه شيء إن كان يتصدر انفعال أهله وطائفته وشعبه، وان كان انفعالهم ناجماً عن حق مضاع أو كرامة مسلوبة. 
لا تخشى الأمم المتخلفة والآفلة شيئا كما تخشى المثقف حينما يكون خارج النسق.وإذا كان لابد من ربطه بـ”الأمة”، فهو صوتها الذي لا تريد أن تسمعه، وضميرها الذي طمرته، وتتحاشى استدعاءه. كل الفلاسفة والمفكرين والأدباء والكتاب، المغضوب عليهم من قبل أممهم الهرمة، كان بسبب أنهم خرجوا عن النسق. فالمثقف لن يكون حرا تماما “إلا إذا أحاط نفسه بعالم أنشأه كله بنفسه” في استعارة من هيغل عند حديثه عن الإنسان الحر.
5
المثقف بهذا المعنى، وعلى طول التاريخ الآدمي، ملعون. شخص وصفته المدونات الرسمية، ونصوصها المبجلة والمقدسة، بـ”الضال، المارق، العاصي، المتمرد، المهرطق، الزنديق، الخارج عن الجماعة ومفرق كلمتها ومشتت وحدتها، المرتزق والعميل” وصفات أبشع.. لكنها، سكتت عن دوره في إعلاء شأنها، وإبقائها حية.
يصبح المثقف ميئوسا منه متى ما عاد إلى النسق، حينها، ستسود الجهالة ويتحكم الدهماء والسوقة برقاب الناس، سنكون مجرد قطيع يساق إلى المجزرة. سنصبح خارج التاريخ.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *