خديعة عنوانها الإصلاح، مع أنّها إعادة تدوير

خديعة عنوانها الإصلاح، مع أنّها إعادة تدوير
آخر تحديث:

 

 فخري كريم 

حان وقت المصارحة، بعد شهورٍ من اختناق المشهد السياسي بما تمّ تداوله باعتباره إرادة تغييرٍ وإصلاحٍ تؤدي إلى إنهاء معاناة العراقيين من كابوس المحاصصة الطائفية والفساد. وطوال سنة من تجاذباتٍ ورجمٍ بالغيب وتفاؤلٍ كاد أن يتحول في لحظة منفلتة إلى منح رئيس مجلس الوزراء تفويضٍاً جاهيرياً عابراً للطوائف يجعل منه منصّة لـ “تكنيس” حوامل النظام السياسي الطائفي من المشهد، واجتثاث جذور الفساد ومظاهره ورموزه.

وقد فات الجميع التنبّه إلى أنّ ” أسّ” أي إصلاحٍ أو تغييرٍ، حتى وإن لم يكن جذرياً، يقترن شَرطيّاً بما تنطوي عليه الشفافية في النظام الديمقراطي من مكاشفةٍ وإظهارٍ للمخبوء مما تعتمده منظومة الفساد والرشى، ووضع الناس في صورة ما ينبغي القيام به من تدابير وإجراءاتٍ أولية، وطرح مسودة عقدٍ اجتماعي وسياسيٍ أمام الملأ، خلافاً للقائم، وتقديم كشفٍ بفريق العمل المكلف، ووضع المعايير البديلة الخاصة بمن يراد لهم قيادة السلطة السياسية والدولة في مرحلة الانتقال من منظومة المحاصصة والفساد الى مرافئ التغيير والأمل بتكريس قاعدة المواطنة في الدولة المدنية المنشودة.

لم يفعل السيد العبادي منذ تسلّمه مسؤولية رئاسة السلطة التنفيذية سوى إطلاق وعدٍ بالإصلاح، والتلويح بإنقاذ البلاد من ويلات دولة المحاصصة الطائفية والفساد، وإصدار ثلاثة حزمٍ إصلاحية، لم يكن لها تأثيرٌ يُذكر على تفكيك ما يريد له أن يتفكك في العملية السياسية تمهيداً لمشروعٍ إصلاحي جاد. وفي واقع الحال لم تجد حزمتان منها الطريق للتنفيذ أو لم تتبين للرأي العام آثارهما العملية الملموسة.

وقد تعامل رئيس مجلس الوزراء ومكتبه حتى الآن بسريّة تامة مع الادوات التي يعتمدها، سوى الإعلان الغامض بأنه يعتمد على لجان خبرة عالية الكفاءة والتجربة، ومنزّهة عن شبهات الفساد ولوثة الانحياز الطائفي من بين فئة “التكنوقراط”!

وجرت إعادة النظر بين فترة وأخرى بمفهوم التكنوقراط، فبينما جرى التلميح في البداية الى الطابع اللاحزبي لأفراده، سرعان ما تحول المفهوم الى عدم اشتراط الاستقلالية ليصبح في المحصلة النهائية كفاءات تكنوقراطية تصطفيها الكتل النيابية!

وأياً كانت دلالة هذا التعثر بمفهومٍ يُفترض أنه يشكل أداة الإصلاح المنشود، فإنه ظل طي الكتمان الشديد، فلا أحد يعرف على وجه الدقة من هم الخبراء واللجان الذين يريد السيد العبادي أن يقفز بنا عبرهم الى إصلاحاته، هل هم نُخبة ظلت خارج دائرة النشاط البشري والسياسي؟ ومن أين جاء بهم؟ أهم قومُ شاء له الحظ أن يخفيهم في حِرزٍ حريزٍ طوال السنوات التي أعقبت إسقاط النظام الدكتاتوري السابق، مجنّباً أياً منهم الاقتراب من الأحزاب والكتل والحياة السياسية وظلوا بمنأى عن كل ما أحاط بالعراق وشعبه أم أنهم خبراء استقدمهم من بلاد الغير ليفاجئنا بما يتميزون به من دراية وحسن تدبير في تصميم عراق جديدٍ، ديمقراطي بدولة مدنية، لا معرفة لأحد منّا بقواعدها وأسسها؟ّ!

إنّ رصيد التجربة التاريخية للشعوب والبلدان يؤكد أن الإصلاح والتغيير وسواهما لن تكون سوى محض خديعة، والتفاف على الإرادة إذا لم تكن تجري في الأضواء الكاشفة، يتداول موضوعاتها وأسسها وأدواتها ورجالاتها الناس المعنيون بها، وهم موضوعها وهدفها النهائي.

والاحتراز،خلافاً لهذا، يعني أحد أمرين، إمّا انعدام الثقة ، أو الخشية من انكشاف مستورٍ يُراد له أنّ يظلّ طي الكتمان ليُمرر مشروع مكتوب له سلفاً الموت السريري.

وبعض التسريبات تثير شكوكاً من أن السيد العبادي يعتقد بأن الناس في غفلة من عناصر تُحيط به لم تكن يوماً بمنأىً عن الشبهات، وأن بعض من يرى فيهم خبراء مستقلين ليسوا سوى تكوينات مشوّهة سياسياً، وامتداداتٍ لدوائر انتخابية وسياسية متهمة بالفساد وتخريب الضمائر. وإذا كان قد تخلى بفعل ضغوط الكتل والاحزاب المتنفذة عن الإصلاح الذي توهّم الناس أنه عابرٌ للطائفية والمحاصصة، فإن ذلك لن يُبرر له “إعادة تدوير” فضلات النظام السياسي المتفسخ وفاقد الصلاحية، تحت لافتة “خبراء” ومستشارين لعملية الإصلاح واختيار كابينته الجديدة.

إنّ العراق لم يألف بعد تكنولوجيا إعادة التدوير “Recycle” لما تعجّ به أرجاؤه من فضلات وقاذورات ليتقبلها في الحياة السياسية.

إنّ من الخطأ ياسيادة رئيس الوزراء الاستخفاف بفطنة العراقيين ….

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *