خيانة الحقيقة وكرم الثقافة

خيانة الحقيقة وكرم الثقافة
آخر تحديث:

بقلم: فاروق يوسف

يذهب عراقيو الخارج مدعوين إلى بلادهم ليساهموا في حفلة تزييف الواقع. فهم يلتقطون الصور في المطاعم والقاعات ومقاه بعينها ومجمعات التسوق كما يفعل الأجانب من غير أن ينشروا صورة واحدة عن الحياة اليومية كما هي من غير تزويق، فهم يحرصون على أن توجه إليهم مرة أخرى. حين يتحدثون عما رأوه وعما عاشوه يظن المرء أنهم كانوا في واحدة من مدن الخليج وليس في بغداد. كل شيء طبيعي وكل شيء جيد. يقول لك أحدهم “ما تسمعه من أخبار لا يعبر عن الواقع”. ولسوء الحظ أن تلك الجملة ترددها أجهزة الإعلام في مختلف البقاع المنكوبة في محاولة لتكذيب الصورة التي يتداولها المراسلون المحايدون. تلك جملة مكررة وزائفة ولا تنقل الحقيقة يصر البعض على تحمل تبنيها طلبا لنفاق صار عادة مزمنة لم تنفع الكوارث في علاجها.

ومما يجدر قوله هنا إن العراقيين لم يكونوا يوما مرضى بحب الوطن ولم تصل وطنيتهم إلى درجة الهوس كما هي الحال لدى شعوب عربية أخرى. غالبا ما كان العراقي يلجأ إلى التذمر والسخط والغضب في مواجهة أصغر مشكلة يواجهها ويكون النقد المتطرف سلاحه في الدفاع عن حقه المفترض. غير أن الشعوب بتراكم الأزمات تتغير. وهو ما يبدو على العراقيين وهم ينكرون ما وصل إليه وطنهم من رثاثة في ظل هيمنة الميليشيات على مؤسسات الدولة ومنها المؤسسات الثقافية التي صارت تُقاد من قبل أفراد ترشحهم تلك الميليشيات لتمثيلها في السلطة. أتذكر أن وفدا من اتحاد الأدباء زار ذات يوم زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي للسلام عليه والاهتداء بتوجيهاته. أيمكن بعد تلك الزيارة الحديث عن مؤسسات ثقافية وطنية مستقلة؟

لا أحد من أولئك المثقفين العراقيين الذين يذهبون باستمرار إلى العراق بدعوات رسمية كتب يوما ما عن الفقر هناك وهو ظاهرة صارت مرئية بسبب وقوع ملايين البشر تحت خط الفقر. لا أحد كتب عن خريجي الجامعات العاطلين عن العمل وتقارير الحكومة تفيد بأن نسبة البطالة تصل أحيانا إلى “40 في المئة” من بين القوى القادرة على العمل. لا أحد كتب عن انهيار قطاعي التعليم والصحة وانتشار الأدوية الزائفة. لا أحد كتب عن المخدرات التي صارت تفتك بشريحة الشباب حيث دخل مصطلح الكبسلة مفردة في معجم الحياة اليومية. يذهب أحدهم يوم الجمعة ليلتقط صورا في شارع المتنبي وهو أحد أزقة شارع الرشيد من غير أن يجرؤ على التقاط صورة واحدة في شارع الرشيد الذي صار ممرا تخترقه العربات التي تجرها الحمير في حين كان قبل عقود لا تسير فيه سوى السيارات الفاخرة. في كل الصور التي يلتقطها عراقيو الداخل يظهر ذلك الشارع الذي هو رئة بغداد كما لو أنه زريبة.

لا أعتقد أن أحدا في النظام الطائفي كان قد وضع خيانة الواقع شرطا لتلبية دعواته التي توجه لمثقفين تختارهم مؤسساته بعناية لحضور مهرجاناته الثقافية المتلاحقة. ولكن العيب في المثقف نفسه. المثقف الذي قرر أن يخون مهمته في قول الحقيقة والاصطفاف وراءها ليلتحق بأعدائها الذين يصنعون واقعا قائما على الاحتيال والكذب والخديعة. وليس الصمت سوى واحد من وجوه ذلك النفاق. أن لا يقول المثقف شيئا في الأزمنة العصيبة التي يعيشها شعبه ووطنه فذلك نوع من الخيانة. ما من أحد من الذين ذهبوا إلى العراق للمساهمة في المهرجات الثقافية التي تُقام هناك لتلميع صورة النظام الطائفي اخترق جدار ذلك الصمت. الصور التي ينشرونها في مواقع التواصل الاجتماعي كانت كافية لفضح موقفهم المنسجم مع أهداف النظام الذي يعرفون جيدا أنه لا يتعامل معهم إلا باعتبارهم أدوات رخيصة قادرة على إشاعة النفاق وتطبيعه.

ولكن قوائم المدعوين تخلو دائما من أسماء مبدعين عراقيين يقيمون في الشتات. وفي ذلك معان كثيرة. كثرة المنافقين وأعداء الحقيقة -ولا أقول الخونة- أمر طبيعي في كل المراحل التي مرت فيها الشعوب بأزمنة عصيبة. ما يهم أن هناك مثقفين عراقيين يقيمون خارج العراق رفضوا أن يكونوا شهود زور ولم يشاركوا في حفلات تلميع نظام طائفي معاد لأدنى شروط الإنسانية. مهما فعل أشباه المثقفين من أجل تزوير الواقع فإن في إمكان كلمة واحدة من مثقف حقيقي أن تُخرسهم. وليست مسألة حظ أن يمتلك العراق عددا من المثقفين الأوفياء له. فهو بلد كريم ومعطاء ولا يمكن سوى أن ينتج بناة لثقافة حية لا عمل لهم سوى الدفاع عن الحقيقة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *