سلاح تويتر أو الصراع بين ذبابنا الإلكتروني وذبابكم

سلاح تويتر أو الصراع بين ذبابنا الإلكتروني وذبابكم
آخر تحديث:

بقلم:د. هيثم الزبيدي

ثمة ولع لغوي بتقديم كلمة “سلاح” على مفردة مألوفة لتعني تحويل شيء من غايته الأصلية إلى سلاح. سلاح الغاز انضم مؤخرا على يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أمثلة سلاح النفط وسلاح الإعلام وسلاح التجويع. الفكرة أن شيئا مثل النفط يمكن أن يؤثر مثلما تؤثر أسلحة الحرب التقليدية الأخرى على الخصوم.هذا بالضبط ما حدث مع تويتر. تحول تويتر مبكرا إلى “سلاح تويتر”، ربما أبكر بكثير مما يتخيل حتى القائمون على مؤسسة تويتر نفسها.لا أعرف تحديدا إذا كنت حضرت ولادة هذا السلاح. لكن بالتأكيد شهدت إحدى الولادات المبكرة له.

كانت بدايات الفوضى في ما سمي “الربيع العربي”. ركبت المؤسسات الإعلامية العربية موجات “مع” و”ضد” ما يحدث. كان الارتباك على أشده، إلى درجة أنك لا تستطيع التمييز بين تغطية قناة إخبارية قطرية وأخرى سعودية عندما يتعلق الأمر بنقل الحدث من القاهرة. مراسلا القناتين كانا يهتفان عمليا للتغيير في مصر. أحدهما كان يعرف أن ما يحدث هو مقدمة لوصول الإخوان إلى السلطة والآخر استبدت به الحماسة. الانتباه إلى الخطر جاء متأخرا.

إلا أن بعض القيادات في الخليج انتبهت مبكرا إلى خطر الفوضى. ما كان يحدث في مصر أهم بكثير من انهيار نظام الرئيس حسني مبارك. صحيح أن “الربيع العربي” لم ينطلق من مصر، لكن ما يحدث في مصر قد يحدد مصير المنطقة؛ فهذا البلد يعدّ مركز ثقل الحدث. كنا نشهد أولى مراحل الحروب الأهلية العربية التي لا تزال مستمرة في عدد من الدول إلى يومنا هذا. الجيش المصري احتوى الموقف، لكن لم تكن بقية الدول قادرة على أن تنجو بنفسها من الصراعات الدامية التي انطلقت شراراتها في كل مكان.

كان أول ملمـح من ملامح الفوضى تفكك مركزية الإعلام العربي. ليس المقصود انهيار منظومات الإعلام الرسمية، فتأثير الإعلام الرسمي في أغلب الدول العربية تضعضع يوم تأسست قناة الجزيرة، وإنما اهتزاز مركزية الفضائيات الكبرى. كان التونسي يلجأ إلى الجزيرة أو العربية ليعرف ما يجري في بلده. بنهاية سيطرة السلطة على أجهزة الإعلام، انتشرت الفضائيات المحلية بسرعة وصار التونسي يهتم بالخبر المحلي غير المرتبط برقيب ومن قناة محلية. لا حاجة إلى انتظار نشرات الأخبار في الفضائيات الكبرى حيث ينافس الخبر التونسي على حصة بسيطة فيها.

كان تأثير الشبكات الاجتماعية قد بدأ. تسابقت المؤسسات الإعلامية الكبرى على حجز صفحاتها على فيسبوك وتويتر. تعاملوا مع المنصات المستحدثة على أنها منصات إضافية لا ينبغي تفويتها. كانت ملامح التمرد على المستوى الشخصي ضد الحكومات قد سجلت حضورها على الشبكات الاجتماعية. ولكن من الصعب الحكم على ما إذا كان “الربيع العربي” نتيجة لمثل هذا التمرد الجنيني. ثورة الشبكات الاجتماعية في العالم العربي بدأت، ولكنها بملامح تعكس ما يحدث في الشارع أكثر من كونها ثورة شخصية يعبَّر عنها على فيسبوك.

في جلسة مع مسؤول خليجي رفيع، دار الحديث عن تأثير تويتر على الناس وقدرته على التواصل. تويتر هو المنبر المفضل في الخليج. كان المسؤول ذكيا في تشخيصه أن معركة الأفكار سيكون ميدانها تويتر في تلك المرحلة تحديدا. ضرب مثلا: إذا كان لاعب كرة مثل رونالدو ومطربة مثل ريانا قادرين على اجتذاب كل هذه الملايين من المتابعين، فلا شك أن ثمة قيمة استثنائية للأفراد وتأثيرهم. المؤثرون القادمون هم أفراد وليسوا مؤسسات ومنصة التأثير هي تويتر. لا أعرف مدى دقة تشخيصي للأمر، ولكن أظن أنها إحدى لحظات ولادة “سلاح تويتر”.

ما حدث بعد ذلك معروف. حسابات المؤسسات الإعلامية التقليدية مهمة ومؤثرة. لكنها تبقى مقيدة بواقع أنها تابعة لمؤسسات إعلامية، مهما بلغ تميزها أو إسفافها. المتابع لمثل هذه الحسابات يعرف أن ما أمامه هو مؤسسة وأن الرد الشخصي عليها لا يختلف عن الكلمات التي يمكن أن تطلقها وأنت تشاهد برنامجا على فضائية. التلفزيون الذي يعرض البرنامج أصم ولن يسمع صراخك أو احتجاجك أو إعجابك. تحويل تويتر إلى سلاح للأفراد من المؤثرين كان بمثابة إنشاء قوة مستحدثة بأسلحة مبتكرة وجديدة في جيش نظامي.

برز تأثير الأفراد بسرعة في المعركة الفكرية أو معركة التأثير الفكري التي اندلعت على خلفية الصراع الجيوسياسي في المنطقة. بدا تأثير تعليقات المؤثرين واضحا بالمقارنة مع حضورهم بصفة شخصية في الفضائيات. حتى ما يقوله الشخص المؤثر على الفضائية، يقطع ويعاد تقديمه إلى جمهوره عبر حسابه على تويتر.انتبهت أطراف الصراع إلى أهمية السلاح الجديد. دخل المؤثرون من هذا المعسكر أو ذاك إلى المعركة، لكن لم يدخلوها وحدهم، بل فِرقًا “قتالية” إضافية صارت تروج لهم وتعيد تغريد ما يقولون. نشأ عدد كبير من الحسابات الحقيقية والوهمية. وبعد فترة دخل الهنود والصينيون والصرب والروس ليوفروا أعدادا إضافية للإيهام بأن كلام المؤثر يحظى بتقدير شعبي عالٍ. ثم دخلت الحسابات الآلية، وتضخم حجم المشاركين في المنطقة ومعهم كمية استثنائية من إعادة التغريد. ومر وقت اختلط فيه المهم بالتهريج، وانضمت قائمة من المؤثرين ممن يقدمون أفكارهم ببذاءة غير طبيعية. حرب السيطرة على الأفكار في المنطقة أصبحت صراعا بين “ذبابنا الإلكتروني وذبابكم”.

من الصعب تقييم تلك المرحلة ومدى تأثيرها النفسي والمعنوي. في النهاية ما غير الأمور كان مرتبطا بفعل كبير ومؤثر على الأرض، مثل تدخل الجيش في مصر، والترويع الذي مارسته القاعدة وداعش والحشد الشعبي، وأموال الدعم السياسي من الخليج للحكومات والأفراد، ودور الإعلام التقليدي بتشخيصه الموضوعي للحقائق. كان الناس يعيشون مرحلة الخروج من الأوهام وإعادة تشكيل الوعي. هل أثر “الطنين” و”الطنين المقابل” على مسار الأحداث وغيّر وجهات النظر على المستوى الشعبي؟ ربما يستطيع الباحثون المتخصصون أن يجيبوا عن هذا التساؤل. ولكن بالحكم على ما حدث من تأثير روسي على مسارات سياسية في الغرب، مثل الانتخابات الأميركية وبريكست، لا يمكن الاستهانة بسلاح تويتر.

اليوم يشتكي الغرب مر الشكوى من بعضه البعض بسبب تحويل منصة تويتر إلى منبر للأحقاد والتأثير السياسي. “الذباب الإلكتروني” صار حقيقة عالمية الآن؛ شخصية مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مثال على ما يمكن أن تصنعه “ذبابة إلكترونية”، قبل الرئاسة وأثناءها وبعدها. الفوضى والحسابات الوهمية وأموال الترويج في قلب صفقة شراء الملياردير أيلون ماسك لتويتر، وفي قلب عدم قدرتنا على استقراء مسيرته القادمة مع المنصة. ربما، مثله مثل الرئيس جو بايدن، ينتظر ما ستؤول إليه الانتخابات النصفية للكونغرس.هدأت معركة التراشق بحسابات تويتر في الخليج بعد مصالحة العلا، ولكنها لم تنته. لا يزال المؤثرون يدلون بدِلائهم، لكن إعادة التغريد والترويج تراجعا بشكل كبير، مرة بسبب قرار سياسي بالتهدئة، ومرة أخرى لأن تويتر نفسه قام بعملية مراجعة تقنية ذاتية لحذف الملايين من الحسابات الوهمية والعمل على منع الحسابات الآلية من تنفيذ الهجمات الدعائية. “سلاح تويتر” انضم إلى ترسانة الفعل السياسي، ولا نزال نسمع قعقعته بين حين وآخر، وبالتأكيد لم تتم إحالته على التقاعد. لا غرابة في أنه كان من أول أسلحة الأنظمة التي تستخدمها في أي صراع قادم. لعلنا ننصح ترامب وبايدن، أو الجمهوريين والديمقراطيين، بمراجعة محاضر قمة العلا، لعلهم يجدون فرصة هدنة مثل التي نعيشها عندنا اليوم.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *