شيء عن المخاوف من عودة داعش

شيء عن المخاوف من عودة داعش
آخر تحديث:

بقلم: علي الصراف

الانشغال بعودة تنظيم داعش احتل حيزا مهما في المباحثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في السعودية، سواء مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أو مع وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان.هذا الانشغال له ما يبرره. فالتنظيم الإرهابي عاد لينشط في العراق وسوريا، عدا عن أن هناك خلايا تابعة له على طول المسافة من أفغانستان إلى بوركينا فاسو.هذا التنظيم هو حزمة متلازمات. ولن تمكن محاربته من دون أخذها بعين الاعتبار. ولأجل ألا يضيع الوقت والمال أكثر مما ضاع على امتداد السنوات العشر الماضية، فقد يجرؤ المرء على القول إن الوقت قد حان لإعادة نظر جدية في أدوات المواجهة ومعانيها مع هذا التنظيم.أول الحزمة، هو أنه رد فعل. لقد نشأ هذا التنظيم كجريمة ليكون بمثابة رد فعل على جريمة. لقد ظهر كـ”جريمة” وحشية أو بشعة بسبب الانحطاط الثقافي الذي غرق به العراق على مدى طويل من الوقت. الجاهل لا يقاتل مثلما يقاتل المتعلم. وكلما انحدرت الثقافة العامة وانحطّت، كلما أصبح القتال أكثر وحشية ومن دون معايير إنسانية أو أخلاقية أو حتى دينية، رغم أنه يرتكب أفعاله باسم الدين. وحيث أن الدين “نصوص”، وفقا لما يقتفيه الجاهل، وليس منظومة معايير، فإنه يمكن العثور على نصوص تصلح لكل شيء.تحوّل رد الفعل إلى “جريمة وحشية” لأن الجهل والانحطاط الفكري والثقافي كان هو العامل الحاسم في تنشئة الدوافع التالية على الدوافع. ولكن رد الفعل، هو رد فعل في النهاية، على عمل بشع آخر.أعمال الفساد الفاحش والجرائم الوحشية التي ظلت ترتكبها الميليشيات التابعة لإيران في العراق، كان لا بد لها أن تصنع ما يردّ عليها. هذا أمر يتوافق مع أولى قواعد الفيزياء القائلة “إن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه”.

وفي الواقع، فإنك لو وضعت كاتب هذه السطور نفسه، بكل ما يدّعيه عن نفسه، في ظروف التهجير والاعتقال التعسفي والتعذيب وانتهاك الأعراض والنهب والحرمان وسلب الحقوق والتدمير، وقلت له “رجاء، لا ترد”، فلن تثبت شيئا سوى أنك أحمق. لأنه سيرد، وسيكون رده على مقدار وحشية ما تعرض له من المظالم.لا حاجة إذن للحماقة، في النظر إلى رد الفعل. لأنه رد فعل. الشيء الصحيح، بهذا المعنى، هو وقف “الفعل”. أي وقف الجريمة الأولى لأنها هي مصدر الجريمة الثانية. أما الانحطاط الثقافي الذي يجعل من الرد همجيا ولا يراعي أخلاقا أو معايير، فهذا معركة طويلة، ولن يمكن كسبها في سنة أو سنتين. تحتاج جيلا كاملا لكي تؤسس لثقافة تراعي ما لم يكن بوسع الجاهل أن يراعيه. ولكن، في النهاية، فإن الجريمة الأولى هي التي يجب أن تتوقف. ولك أن تطمئن لحقيقة أنه طالما بقي أصلُ الجريمة قائما، فمن الحصافة أن تنتظر داعش، وما هو أدعش من داعش.

قصارى القول هنا، هو أن الولايات المتحدة، بوصفها أحد صناع الجريمة الأولى، يجب أن تتراجع عمّا فعلت، وأن توحي للعصابات الطائفية التي راهنت عليها، بأن الوقت قد حان للتوقف. يمكن القول لها، لقد نهبتم ما يكفي. وقتلتم ما يكفي. ودمرتم ما يكفي. ويجب التوقف كليا ونهائيا، عمّا ظللتم تفعلون.وثاني الحزمة، هو الفقه الأعوج الذي ظل عاجزا عن أن يقتفي أثر نظام المعايير الإنسانية والأخلاقية في الدين.النصوصية، لم تكن، على أرض الواقع، إلا لصوصية سرقت الإيمان وحوّلته إلى قالب، لا يُفهم منه حتى منطوق القول نفسه، ولا سياقاته ولا معانيه. يكفي أن تستعين بقوله تعالى “وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ”، حتى يتبدد المعنى من وراء قوله تعالى “وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ”. والتناظرات كثيرة بين ما يمكن اقتفاؤه من خارج المعايير. حتى لقد نحقق “العدل” بأيدينا لنفصل بين الناس، بينما يقول تعالى “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. بمعنى أن الله عز وجل هو القاضي، لا أنت.

من خارج النظرة الكلية لنظام القيم والأخلاقيات والتشريع، يمكن عمل كل شيء، ويمكن تبرير كل شيء. وهذا خلل مقيم، لا يمكن إصلاحه. وسادة الفقه هم الملومون.وثالث الحزمة، هو الفقر وغياب العدل والمساواة وانتحار قيم القانون، والتسلط السياسي، وكل ما يدفع الناس إلى البحث عن وسيلة للخروج من دوائر القهر.في ظل نظام استبداد شرس في دمشق، أيهما كان أكثر إثارة للعجب، أن تظهر تنظيمات مثل داعش والنصرة وغيرها، أم ألا تظهر؟ الذين ظلوا يدفعون ثمن الطغيان والتعسف لأكثر من نصف قرن، ليسوا موتى في النهاية. يظلون بشرا، يتطلعون إلى عدل ظل غائبا وإنصاف لا سبيل إليه، حتى لم يبق إلا العنف للرد على العنف. خسروا المعركة، نعم. ولكنهم لم يخسروا التطلع إلى العدل والإنصاف.

الآن، إذا أردت أن تحارب داعش، فمن العقل والمنطق أن تحارب دوافع ظهوره المادية، وما يليها من دوافع انحطاط الدوافع.الخيار الوحيد، الآخر، هو أن تستخدم “محاربة الإرهاب” كتعلة لأغراض أخرى، فيستمر القهر والظلم ويطغى الفشل، وتنتصر الأغراض الأخرى وتحقق غاياتها من أنظمة الفساد والفشل، التي تظل تنتج داعش لأنها هي نفسها أدعش من داعش.في خضم الفقر والتخلف والانحطاط الثقافي، فإن نمط النظام السياسي، هو الذي يقرر في الواقع، ما إذا كانت سوف تتوفر بيئة صالحة لظهور تنظيم مثل داعش.هذا أمر يحت اج إلى القليل من التشدد الأمني، ولكنه يحتاج إلى الكثير من الوعي بين أصحاب القرار، ليصنعوا استقرارا، أو يصنعوا خرابا. الأمر بأيديهم تماما، لا بأيدي الجاهلين. محاربة “الفعل” أولى وأهم من محاربة رد الفعل.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *