عزف على إيقاعات الأشياء المهملة

عزف على إيقاعات الأشياء المهملة
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة أخبار العراق- زهير الجبوري.. لعل الغور في عالم القصة القصيرة جدا يفتح لنا نوافذ الاطلاع على استنهاضها وتكريسها والعمل عليها بوصفها فناً سردياً معاصراً، ولأن هذا اللّون من الاشتغال السردي له مواصفاته ودقائقه الحذرة اذا ما اعتمدناه من عائلة السرد القصصي. هذا اللّون لمسنا حضوره البارز على يد مجموعة من قصاصي العراق، والقاص حنون مجيد واحد منهم، فكانت مجموعته (الخيانة العظمى) معتمدة على ذلك النمط السردي. تناظر مع قصيدة النثروذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ان (القصة القصيرة جداً جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والايحاء المكثف والنزعة الموجزة) بحسب جميل حمداوي، فإنها في الوقت ذاته تتمتع بميزات التكثيف ومتعة الشدّ والصدمة ولغة التلميح وسمات التجريب، ومهارة اللّعب اللّغوي ومخيالية البناء الذهني، وما الى ذلك من بناءات عميقة، بالاضافة الى اشكالية البناء الاجناسي القلق الذي يناظرها مع قصيدة النثر، إذ ان التمايز المهاري الذي يضع المتلقي في لحظة الإمساك والتشخيص بين نمط وآخر يخلقه السارد نفسه من خلال الفعل البياني الواضح الذي يشتغل عليه..القاص والروائي حنون مجيد، قبل صدور مجموعته هذه، قدم الكثير من هذا الاشتغال السردي، أشعر أن إلحاحه الشديد في ذلك ، جاء من رغبة نفسية معمقة، لها جذورها الاجتماعية والسياسية والثقافية، فهي كاشفة عن لغة التعبير المشحونة بهذه المؤثرات، بخاصة إذا ما أمسكنا ببعض العناوين المشخصة، وهي تؤكد تشخيصنا، ومع وجود المعيار الفني المميز، فإنه بلا شك يتميز بنوعية (الكم)، حتى وان كان بعضها يعبر عن مشهد اختزالي، مع دقة اختيار الموضوع المعمول عليه. أداءات متنوعة،استدعتنا المجموعة إلى الإحاطة بنصوص متمثلة بأداءات متنوعة من حيث القصة القصيرة جدا والأقصوصة وملامح الأقصوصة وومضات الأقصوصة، كلّها بائنة، ولكي نمسك بوحدة الموضوع التي تكشف عن تكريس هذا الشكل السردي الحديث، ثمّة ما يسمى بـ(القصة القصيرة الشاعرية) التي دعا إليها بعض النقاد، فهي تمسك بالجهد السردي وتقدمه بالشكل الذي يجعلها ذات سمة لغوية مشحونة بمخيالية ذهنية متعالية ..ثمّة قصة ناطقة عن بناء فني، تحمل العديد من الأبعاد المتداخلة من حيث قصديتها، أو طريقة الوصول الى تحليلنا النقدي لهذا الشكل من الاشتغال السردي، حيث نقرأ في (سؤال القاص):(سألوا القاص عن الفرق بين قصته القصيرة جدا والقصة القصيرة والرواية، مثلا فأجاب: الفرق اننا نصل إلى الهدف البعيد بأقل الكلمات واقصر الطرق):10، هذا التوصيف المجازي وإن جاء ضمن طريقة فنية سردية، لكنه يعد الوجه الحقيقي لمشروع القصة القصيرة جداً.أما ما يخص مستويات نزوع النصوص بموضوعاتها المتعددة، فكانت متباعدة التنسيق، بمعنى ثمّة نصوص ذاتية/ غنائية، تبرز عن حضورها المعبر عن (أنا السارد)، سرعان ما تظهر غيرها معبرة عن شعور حسي/ تعبوي، ثمّ غيرها معبرة عن مشهديات مكانية، وغيرها معبرة عن فضاءات تأملية، وغير ذلك من التوصيفات، تمنيت لو خصصت كل مجموعة في جانب معين  كي يتسنى للقارىء الفاحص، أو القارىء العام أن يمسك بكل واحدة منها على انها شكل من اشكال القصة القصيرة جداً وإن الحقيقة السردية هذه تميزه عن ألوان البناء السردي /القصصي الأخرى .. كما تتضح تجربة القاص حنون مجيد في (الخيانة العظمى) عبر السياق الواقعي في أغلب ما قرأناه، فلم ينسرح الى الاشتغال السردي المفعم بأجناسية حديثة واضحة بأنماط القصة الوجدانية والرومانسية والموضوعات الهائمة بالبعد المثيولوجي ـمثلاًـ أو ما شابه ذلك من تنوع موضوعي، لم ينسرح الاّ في مناطق متباعدة وغير معمقة، ولا ضير في ذلك، لأنه عرف بانتمائه الى الواقعية منذ بواكيره الاولى في كتابة القصة، ولنصارح القاص في تركيزه على هذا الاشتغال السردي في سنواته الأخيرة.. ما الدافع الذي جعل منه سارداً كاشفاً عن تفاصيل الأشياء المعاشة والمحيطة به..؟ أعتقد أنها لذة الإمساك بكل الاضطرابات والتشنجات التي جعلت من الواقع مزدحماً بالتناقضات، وبذلك يمكن التعامل معها بهكذا أسلوب.من جانب آخر، لم يكن المبنى السردي في القصص القصيرة جداً لدى القاص مجسداً لمكونات القصة وفروعها المألوفة لوحدات الزمان والمكان والشخصية والحدث، انما اذيبت في بوتقة واحدة ، هي بوتقة النص وصيرورته الحائرة، أما التلوين النصي المائع ، هذا التلوين أخذ على عاتقه كشف الوجه المضيء لواقع الاشتغال في هذا المجال على أنه شكل من اشكال الكتابة السردية التجريبية، استناداً إلى خاصية الكيفية التي طرحت فيها كتابة النصوص، ومهما كان الإيجاز والتكثيف وشروع الانتقاد وسخرية الحدث وتهجين اللّغة بغية الوصول الى قصدية معينة، فقد اعطى  فعل الاداء السردي تنوعاً ملموساً للعديد من الموضوعات المفتوحة ..(الخيانة العظمى)، مجموعة مسترخية على وقائع واحداث محسوبة بمعيارية خاصة، احسب انها قدمت بطريقة بنائية أثارت متعة المتلقي بفعل الدهشة والصدمة والمفارقة التي بناها القاص ،وهنا تكمن فاعلية النصوص على انها رصد فاعل لعوالم محسوسة وملموسة وأخرى متخيلة، ومع رصد إيقاعات الأشياء المهملة، تتسع ايقاعات اللّغة وتقدم شكلا من اشكال هذا الفن الحديث عبر قراءة واسعة وبطريقة اجناسية معاصرة، مع الافادة من كل التحولات الكبرى التي استنبطت حضورها في عالم ما بعد الحداثة . 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *