فضيحة الإبهام في ما بعد الحداثيَّة

فضيحة الإبهام في ما بعد الحداثيَّة
آخر تحديث:

عبد الغفار العطوي 

ما هو الحداثيَّة في الأساس؟ هو إمكانية  تصنيف موضوع أو حدث في أكثر من فئة، وهو بذلك حال اللغة، وقصور في وظيفة التسمية (وظيفة الفصل) في اللغة، ولكي نفهم علاقته بمفهوم الحداثة، وما بعد الحداثة سنقرأ ما كتبه زيجمونت باومان (1925 – 2017) عالم اجتماع بريطاني من أصول بولندية، وارتبطت تحليلاته في علم اجتماع الاندماج، بالعلاقة بين الحداثة والهولوكست، ودور اللغة والثقافة، من حيث ما توصلت كتابات فلاسفة اللغة في هذا المجال، من توسع علم الاجتماع والنظرية السيسيولوجية ما بعد الحداثية من إيجاد رؤى متباينة. لكن بلباس واحد (مسمى) بدءًا من ليوتار(1924 – 1998) في نمط البحث الفلسفي ما بعد الحداثي في السيسيولوجيا (من خلال كتابه المهم ظرف ما بعد الحداثة)، وكانت فتوحات فلسفة اللغة قد بدأت على يد أهم فيلسوفين غربيين معاصرين، هما غوتلوب فريجه، ومايكل دوميت، في ما يطلق عليه  بـ (العوالم الممكنة) التي لخصها الأخير في موقفه التحليلي من مفهوم الواقع عبر اللغة. إن الفلسفة التحليلية تستند إلى تبصر فريجه في الطريقة الصحيحة إلى دراسة الأفكار هو في دراسة اللغة، لذا قال مايكل دوميت إن الاستعمال هو الاساس في مواجهة المعنى، وأصبحت إشكالية المعنى الاستعمالي، هي من مقصديات فهم العلاقة بين اللغة والحداثة، وانتقال ارتباكاتها نحو ما بعد الحداثة، لذا فإن أول إشكاليات الحداثيَّة يتركز في اللغة بوصفها الأنا الأخرى لها، كما هي باعتبارها غير معنية بخارج الوعي. 

فوعينا هو الذي يقوم بتعريفنا بالعالم الخارجي، عن طريق الربط بين اللغة والمعنى، وهي لا تمتلك القدرة على التعبير عن الحقيقة، كذلك لا تفرق بين الواقع والحقيقة تماماً. واللغة لم تكن في الأساس معنية بالحقيقة الموجودة خارج الوعي، بل بالصورة الموجودة في ذهن الإنسان. من هنا برز الحداثيَّة في أجلى صوره في اللغة، وباومان عالج مفهومي الحداثة والحداثيَّة وربطهما بين اللغة والثقافة، قائلاً: إن هناك نظاماً في اللغة يجب اتباعه يكمن في التصنيف والفصل، لكي نتجنب الفوضى في اللغة، فمن خلال  وظيفة التسمية/ التصنيف ترسخ اللغة نفسها بين عالم يحافظ على النظام، ويقوم على اساس صلب. في حين يصدر الحداثيَّة عن افتقارنا إلى الأدوات اللغوية اللازمة، لتشكيل أبنية مستقلة، مما يؤدي إلى الأزمة في فهم الثقافة التي هي مادة الحداثة. 

فالحداثة جددت لنفسها عدداً كبيراً من المهام الممتنعة التي جعلتها، مع ذلك ما هي عليه، ويقف النظام فيها سداً أمام الفوضى، فالنظام هو ما ليس  بفوضى، والفوضى هي  ما ليست بنظام، النظام والفوضى توأم حديث. لكن ثمة مسألة مهمة يخوضها باومان تتعلق بمفهوم الحداثة، بالأخص في تاريخ الحداثة، فهو تاريخ توتر بين الوجود الاجتماعي وثقافته، والوجود الحديث يدفع ثقافته إلى معارضته، هذا التنافر هو التناغم الذي تحتاجه الحداثة، باعتبارها شكلاً من أشكال الحياة، فهي تتحقق عبر تحديد مهمة ممتنعة، لهذا فهي جهد يسبب الأرق المتواصل. 

يمكن لبيتر بسلارز (النظرية الثقافية تحرير تيم ادواردز وجهة نظر حول جهد باومان في الفصل السادس المهم  مع نخبة من المؤلفين) لأن جهد باومان لم يقف عند دراسة معينة في عملية الانتقال من الحداثة نحو ما بعد الحداثة برؤية ما بعد حداثية متجددة، فقد شارك الجميع فوكو بوديليار ليوتار جيدنز فولر.. إلخ، في مشروع الانتقال المبهم، الذي كان يعتقد انه سيكون لصالح الحداثة، فقد درس بيتر بيسلارز في (زيجمونت  والثقافة والمجتمع)  إن الثقافة في كل مكان، وكذلك الدراسات الثقافية بحسب ما يبدو أحيانا، فالتحول 

المرئي  يحل  الآن محل التحول الثقافي أو اللغوي  لفترة  ما بعد الحرب  في الحياة الفكرية الغربية، باومان هنا كيف تخطى العلاقة التي تربط بين الثقافة والمجتمع للتغلب على مفهوم الحداثيَّة الذي انتقل إلى ما بعد الحداثة؟ وجعل باومان يعاني من صعوبات ذلك الانتقال، مثله مثل غيره من المشتغلين بعلم الاجتماع  الذي بات مملاً، يبيّن بيسلارز هذه المسألة معتبراً باومان استثنائياً في دراسة العلاقة بين الثقافة والمجتمع عبر تعقيد اللغة التي تعاني أصلاً من الحداثيَّة. إذا كانت الدراسات الثقافية قد سعت لدراسة التمثيل، فإن علم الاجتماع العام غالباً ما يكون مملاً جداً، بحيث يبدو مفيداً من دون إثارة الدهشة، وهناك استثناءات وعمل زيجمونت باومان هو الاستثناء الوحيد، لأنه يستجيب لعلامات العصر. 

لكن باومان قد قام بمواجهة فضيحة الحداثيَّة في الحداثة، متأملاً أن يجد الأوضاع قد تغيرت في ما بعد الحداثة، فيما يتعلق  بالحداثيَّة الحداثي وما بعد الحداثي، خاصة لما أدرك اثناء دراسته لتفسيراته التي تناولت الهولوكست (الإبادة الجماعية) وغيرها. لقد كان اعتقاده إن مسألة الإبادة التي اتهمت بها ألمانيا النازية، ستجد إدانة واضحة من قبل الجميع في الغرب من المؤمنين بقدرة الحداثة العقلانية أن تخلق عوالم ممكنة تصحح الحداثيَّة الذي وفرته الدولة التشريعية، لكن القبول بنتائج ما تمخض عنه الدرس المستفاد من الهولوكوست  في المحاولات المتنوعة الرامية إلى تهميش الهولوكست أو تغريبها، باعتبارها حدثاً تاريخياً فريداً استثنائياً ومنفصلاً عن غيره، بمعنى إن باومان لم يرغب أن يخص تلك الحادثة، التي تعرض لها اليهود على أنها  علامة إدانة لما قبل الحداثة للعالم الغربي، إنما أراد نقد مفهوم العقل التشريعي الذي امتازت به الحداثة، ونظرة البستنة (من البستاني)، التي سخرتها الدولة الغربية الحديثة، لتضع ما بعد الحداثي في حرج البستنة، وتدفع بالإنسان للإيمان بوجود الدولة الرعوية. 

لقد شرح باومان حلم العقل التشريعي، الذي أضرَّ بكل ما هو بعد حداثي، حينما أوضح أنه على مدار العصر الحديث تناغم العقل التشريعي لدى الفلاسفة  مع الممارسات الموغلة في المادية لدى الدولة. لقد ظهرت الدولة الحديثة باعتبارها قوة رعوية  تبشيرية صليبية، ليتحمل الفلاسفة منذ كانط وزر تدهور تفاقم اركان الحداثة، بخلقهم مفهوم حلم العقل التشريعي، الذي يمثل حقيقة الخيبة في ما نجمت عنها طموحات الحداثة، التي تبنتها فلسفة الدولة الحديثة في انتهاء الحداثيَّة في ما بعد الحداثة، من دون خسران فكرة الاستمرارية  لما بعد التنويرية.    

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *