مهارة الرواية اليتيمة

مهارة الرواية اليتيمة
آخر تحديث:

ابراهيم سبتي
في الادب كما في الفن ، ثمة من ينجز عملا واحدا في حياته ويصبح ايقونة مبدعه وتاريخه الوحيد  .. كثيرون اولئك الذين تميزوا في عمل واحد ، في مجال السينما ، الموسيقى ، الرسم ، النحت  والادب خاصة في الرواية .. هوس ابداعي يحقق نجاحا لا مثيل له ..” باتريك زوسكيند ” احد اهم الروائيين في عصرنا ، انه صانع رواية العطر ” قصة قاتل ”  في عام 1985 . والتي صدرت عن احدى دور النشر السويسرية . انها اسطورة روائية حبكها زوسكيند بعناية  فائقة وبناء رصين مثير ومدهش .. غرونوي القاتل ، شخصية غرائبية بعقل اكبر من عمره ، الباحث عن اساليب عجيبة لتنفيذ خططه .. يمتلك حاسة شم لا مثيل لها ، حاسة جعلته متفردا في عالم صناعة العطور ، مادته اجساد فتيات جميلات مقتولات يستمتع بقتلهن للوصول لحالة الانتشاء النادرة التي ينتظرها بعد حصوله على سر الصنعة وينتج عطرا جذابا يثير المشاعر بنشوة غريبة . حققت الرواية مبيعات هائلة يساوي مجموعها في كل انحاء العالم ، مجموع ما بيع من الروايات الالمانية قاطبة باستثناء رواية ” طبل من صفيح ” لغونتر غراس .. انها رواية خلود كاتبها ، عمل واحد اغنى عن اعمال كثيرة ربما لا يذكرها احد .. ذكاء الكاتب جعله يفكر الف مرة في المغامرة اللاحقة ، ولكنه لم يبادر ولم يندم على ذلك ، فاكتفى بواحدة صنعت له مجدا لا يضاهيه مجد.. كم اعرف من الروائيين الذين انجزوا عشرات الاعمال ، راحوا يتسابقون على الكتابة للتنافس في فضاء الرواية ولم يوقفهم الا الموت .. هذا ديدن الاديب الباحث عن التميز والفرادة في سوق الرواية ، يكتب حتى انقطاع النفس وربما تتميز عنده واحدة او لا .. “العطر” اختزلت حياة كاتبها الادبية واكتفى بصناعة صرح خالد يذكرنا بالروائيين التاريخيين الذين صنعوا قلاعا روائية ظلت عنوانا مهما ورقما صعبا ما زلنا نتذكرها بفخر القراءة المبكرة .. فكرة رواية العطر ، كانت غريبة وجريئة ومثيرة ، كيف يصنع عطرا ليس له شبيه من اجساد النساء القتيلات ؟ انها جذوة الاشتغال بنفس متواصل وثقة بالنجاح لا يمتلكها كاتب اخر رغم الابداع والتميز اللذين يتمتعون بهما .. هذا الارتقاء يشبه البناء المعماري المدهش والمثير في كل وقت ، فكثير من المعماريين يحاولون للوصول الى عظمة ذلك المبنى .. تظل “العطر” الرواية الخالدة التي كسرت حاجز النجاح للروايات التي تصدرت قائمة النجاحات لفترة معينة ، انها رواية النجاح الدائم والشهرة التي تربعت في سجل كاتبها المتغيب عن ساحة الرواية لاكثر من ثلاثة عقود لم يستطع احدمن الروائيين ان يحتل هذه المكانة رغم ان اعظم الروائيين برزوا في القرن العشرين كان تاريخهم اكبر واوسع شهرة من باتريك زوسكيند . لكن هذا ليس معيارا كافيا للتميز ، فكثير من التلاميذ تفوقوا على معلميهم والتاريخ شاهد مباشر على هذا ، بل ان معظم الادباء الذين لامسوا ضفة الرواية لاول مرة ، برزوا وتميزوا وكتبوا عشرات الاعمال التي عرفت وذاع صيتها ، وكانت رواياتهم الناجحة تنتشل الاخرى الضعيفة من مهاوي السقوط . فكيف حال كاتب الرواية الواحدة كما في حالة الروائي الاميركي ( ج . د. سالينجر ) حين كتب رائعته ” الحارس في حقل الشوفان ” في عام 1951 وهي رواية ازمة الانتماء والهوية في عالم المراهقين ، ظلت يتيمة لا غيرها في سجل سالينجر الذي نجح بتميز وهو يصنع شخصية كبيرة تصارع واقعا مأزوما ، انه هولدن كولفيلد  وهي شخصية صورت بعناية وابداع وخلقت فضاء متوهجا مضيئا، صفحات الرواية التي بيعت منها اكثر من 65 مليون نسخة .. نجحت الرواية واشتهرت ولم يصنع سالينجر رواية اخرى تنافسها .. وهكذا ظلت الرواية اليتيمة ، حدثا فريدا ومدهشا متّعت القارئ بمختلف انساق ثقافات القراءة وبمختلف مستويات التلقي . وان تفحصنا زوسكيند الالماني وسالينجر الاميركي ، نجد رابطا بينهما يكتشفه القارئ الحذق ، انه حرفة ومهارة وتجربة شخصية قد تكون خلف هذا النجاح والانتشار الكبير على طول السنين ، انها مهارة الافذاذ في عالم التنافس والوجود الروائي وسط اسماء مهمة حفرت تاريخها بجدارة واشتهرت بحرفية واقتدار وتبجيل .. انه خلود العقل الروائي الفريد المنتج للروائع الخالدة والراكض نحو الافق وحيدا برواية لا اخت لها ..

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *