هذا المقال كان من المفترض أن يُنشر بشكلٍ مشترك، مع أمينٍ عام لإحدى الأحزاب، ذات السُمعة المستقلَّة. لكن يبدو أنَّ الخشيَّة من ردَّة الفعل، دفعته للتنصُّل بكل “أدب”. كان الله في عون الناخب العراقي، إن انتخب مثل هكذا حزب، يقودهُ شخصٌ جبان.هناك من يروِّج إلى أن دور الأحزاب الناشئة والمستقلين، في الانتخابات القادمة؛ سيكون عبارة عن روحٍ “كاشانيَّة” – نسبةً إلى سجادة الكاشان الإيرانيَّة – تُجدِّد فُرص ما تُسمَّى بالأحزاب التقليديَّة، والتي هي في الحقيقة، تمديدات إقليمية ودولية، استعرضت نفسها وما زالت، ومنذُ عشرين عاماً، بثيابٍ سياسيَّة، من القومية العرقيَّة، الطائفيَّة، والمناطقيَّة.لا يمكن التحالف بحسب فهمِنا، لرواية إحدى الأحزاب الناشئة، مع من شبَّ إقليمياً، واستوى عوده دولياً، وشاخت سياسته الداخليَّة، بأسلوبه الفاسد والمحاصصاتي. الناشئون يعتبرون هؤلاء التقليديين عارِضاً انتقالياً في إدارة البلاد، يحاول التيمم بالصندوق الانتخابي. وعليه فإنَّ المستقلين لا يمكن أن يتيمَّموا وبحجة الصندوق الانتخابي، بأيّ علاقات مع تلك الأحزاب.
السؤال إذاً: كيف تستطيع الأحزاب الناشئة أن تُغيَّر المعادلة السياسيَّة بشكلٍ حقيقي؟
إحدى الأحزاب الناشئة لخَّصت رؤيتها؛ التي اتكأت على جِدار الوقائع المنطقيَّة، بأنَّ الناشئين والمستقلين مُجبرون، إذا ما أرادوا قلب المعادلة السياسيَّة، على “التوحُّد في قائمة انتخابيَّة، للذهاب إلى الصندوق الانتخابي، بتحالفٍ جامع. غير ذلك؛ فإنَّ النتيجة ستكون تبعثر حظوظهم الانتخابية، ولن يحصلوا على ما أتاحهُ لهم، قانون الدوائر المُتعدِّدَة”.
هذه القوَّة الحزبيَّة الناشئة، سعت منذُ عامٍ ونيف، على تنضيج بديل سياسي مع شركائها، في تحالف “قوى التغيير الديمقراطية”. هذا التحالف الذي استطاع جمع (11) أحد عشر حزباً، حركة، وتجمعاً للمستقلين في المحافظات العراقيَّة، للذهاب مجتمعين، إلى الانتخابات القادمة.
الأحزاب التقليدية، تقوم الآن بحربٍ نفسيَّة، ضدَّ الناخب العراقي، عندما قررت استعادة قانون الانتخابات الجديد، لحدبة نظام سانت ليغو الرياضي، لحساب الأصوات. هي تُريد تحديداً الإيحاء بأن الأمور عادت إلى المُربَّع الأول، وبأنَّها ذبحت القطة على المحراب “الكاشاني”، وبأن المستقلين وإن هربوا من فخ هذا النظام الرياضي؛ فإنَّ القطة (المستقلون) ستموء على السجَّادة وهي شاكِرة.
نحنُ نجد أنَّ هذا التفسير مغلوط بالكامل. نظام سانت ليغو الرياضي لاحتساب الأصوات، ورغم عيوبه، إلَّا أنَّهُ وضِعَ أساساً، ليضمن للأحزاب الصغيرة تمثيلاً برلمانياً عادلاً، باحتساب ما حصلت عليه من أصوات انتخابية. العيوب في هذا النظام صنَّعتها سُلطة الأحزاب التقليدية، حيثُ عمدت إلى تعديله وتشويهه، من خلال التلاعب في الرقم الذي يُقسِّم الأصوات الانتخابيَّة، وبالتالي تحديد عدد المقاعد النيابية التي يفوز بها كُل حزب. تحديداً، هم حرَّفوا رقم (1.4) الذي يُتيح منافسة انتخابية، شريفة سياسياً وغير لائقة بهم، إلى منافسة شريفة لهم، بالذهاب إلى الرقم (1.7) فما فوق؛ كي يسلم شرفهم الرفيع من أذى الأصوات الانتخابيَّة.
البعضُ من المراقبين والواقعيين السياسيين قد يرون فيما تُريد القوى الجديدة الذهاب إليه، من نبذ التعاون مع الأحزاب التقليدية، في عملِها السياسي، نوعاً من العُذريَّة، المتولِّدة من خيالات المُدن الفاضلة. نحنُ نُعطيهم الحق فيما ذهبوا إليه، ولكن هل هم مستعدون، لأكل التفاح الفاسد ولا شيء غيره، ما داموا ينظرون إلى تفاح سليم.. أليست تلك الصورة أكثر عُذريَّة و طوباوية؟
الأحزاب الناشئة، تزعم بأنها تمتلك المبدأ، وجُرعات من الفهم الواقعي للبيئة السياسيَّة. هي تؤكِّد أنَّها لن ترضخ لِحراكٍ “كاشاني”، ولن تضع نفسها، في الانتخابات القادمة في سلَّة واحدة مع التفاح التقليدي. ظاهريَّاً، هناك اختلاف أيديولوجي، وخلاف جذري فيما يخصُّ المعايير السياسيَّة، والنزاهة. كما أنَّ القوى الجديدة، ليست لديها أسنان طائفية، ولا معدة مُحاصصاتية، مثل القوى التقليدية. الانتخابات الماضية في أكتوبر 2021 كشفت شيئاً آخر. لم يتوزع المستقلون الفائزون على كامل الطيف الاجتماعي العراقي، بل كانوا زائدة “شيعية وكردية”.
الآن، هناك حاجة إلى توضيح الآلية التي ستتعامل بها القوى الجديدة مع المجتمع الدولي، والتي يمكن اختصارُها بطرح هذا السؤال ذي الروح الشعبيَّة: هل سيكونون “أبناء السفارات” كما تفعل الآن القوى التقليدية التي اتهمت غيرها بذلك سابقاً، غيرةً منها على الوالد ذي العيون الزرقاء واللحية “الكاشانيَّة”؟
التعامل مع المجتمع الدولي، وبحسب البعض من المستقلين؛ سيكون من “خلال البعثة الأممية في العراق”، رغم كُل العيوب التي يشوب عملها. تحاول “يونامي”، المشهورة بانحيازها للوضع الراهن، التوفيق بين الجميع في البلاد، والحفاظ على استقرارها السياسي، ولو بالدرجة الدُنيا. أيضاً، تحسين البيئة السياسية، بتوافق جميع اللاعبين. هي وبحسب الواقعيَّة الدولية تُعامل الجميع أنداداً، لكنها لا تصنعُ ندّا من الفراغ، كحال البعضٍ، صنعتهُم ألعاب التوازنات الإقليمية والدولية. باختصار هي تستخدم سُلطة الأمم المتحدة كمسامير لتثبيت ألواح التوازنات المتفق عليها خارج الحدود العراقيَّة.
العمل مع الدول المُمثِّلة للمجتمع الدولي؛ سيكون بـ”الطُرق المُتفق على معاييرها وطنياً ودولياً”. لا نفهم كيف سيقوم المستقلون بذلك. أو ما هي الخطوة الأولى.. كيفية جس النبض الدبلوماسي لتلك الدول (سفاراتها) في البلاد. تُراهن الأحزاب الناشئة على أنها لن تستخدم سمَّاعاتِها الحزبيَّة للإصغاء إلى أمنياتٍ طائفيَّة، أو صوت صفَّارات الانتماء، إلى هذا المحور الإقليمي أو ذاك الدولي. شِعارُهم البارز “لن نستطيع العمل مع دولٍ، تتدخل بالشأن العراقي، وتُسيء للمبادئ الدولية”.
دول الجوار التي لعبت بالداخل العراقي، وأضعفت موقف العراق خارجياً، لن “يكون لها نصيبٌ في المستقلين”، بحسب الأحزاب الناشئة. نحنُ ما زلنا نرى هذه الدول وإلى حدِّ الآن، تُدمِنُ على ربح الطارئين– الأحزاب التقليدية – وتخسر العراق، بحجَّة السياسة الواقعيَّة.
تُريد القوى الجديدة الدعوة إلى سياسة خارجية ذات منهج مختلف. إذ ليس هناك حزبٌ عراقي حمَّل الدول التي تتعامل مع البلاد ثمناً دبلوماسياً، تزدادُ فداحته بشكلٍ يتناسبُ طرديَّاً، مع خسارة تلك الدول للعراق ومراكمتها للأرباح الطارئة!
الأحزاب الناشئة كحالها من الأحزاب التقليدية، إعلاميَّاً، تُريد أن يكون “العراق سيداً لقراره، وأن يتعامل وفقاً لمصالحه، والمصالح المشتركة مع الدول والعالم الخارجي، لا وفقاً للأهواء الإقليمية والمصالح الدولية”. يراهِن المستقلون على أنهم لن يتبعوا القاعدة؛ التي أفصح عنها واحدٌ من سياسيَّي الجوار “نحن من أجل مصلحة النظام ندخل إلى الجحيم ونحاور الشيطان”.
أعود إلى الانتخابات القادمة، المزمع انطلاقُها في ديسمبر القادم، والتي ستكون ذات طبيعة مصيريَّة. تعليل الأهمية المُطلقة لها يبدأ من السخط الشعبي الكبير والواسع حيال النظام السياسي، والذي يُعبِّرُ عنه هذا السؤال المُتكرِّر: ما هي الجدوى من المشاركة في عملية انتخابية لا يُعمل بنتائجها؟
نتائج الانتخابات السابقة في أكتوبر 2021 كانت مُختلِطة ومشوشة. السبب الأول، وصول نسبة المقاطعين إلى ثمانين في المئة. أمّا الثاني فكان ظهور بديل سياسي اختلف بالنهج عن الأحزاب التقليدية، مثَّلته القوى الجديدة، لكن سعرها الشعبي انخفض. بعضُها شُري من قبل الأحزاب التقليدية، وفضَّل بعضها الآخر، الاحتماء بيافطة حزبية، أو ميليشيا مًسلَّحة، مع مواقف أُخرى لا نعلم عنها شيئاً. إذ أن الناشئين كما يبدو، يفضِّلون العمل في غُرفٍ نصف مُغلقة، حيثُ النصف المفتوح تُحدِّدُه آمال الجمهور حصراً! وربّما لأنَّ كثيرا منهم الآن: صحافيون، ناشطون، ومنظمات مجتمع مدني، يظنون السياسة فُرصة للتنافس الشخصي.
الثالث والأخير كان دراماتيكياً، لكنه كشف ببغائيَّة الأحزاب التقليدية التي خسرت الانتخابات الماضية. دعت فوراً، وعبر قنواتها الفضائية، إلى استعارة التجربة اللبنانية. تحديداً، هُراء “الثُلث الضامن”، لتئد التغييرات السياسية؛ التي عبَّرت عنها النتائج الانتخابية.العملية الانتخابية القادمة، إن لم تتوفَّر فيها “تطمينات واقعيَّة، بأنها ستكون نزيهة، وقابلة للفحص بالمجهر الأممي، وراضِخة للديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة؛ سيكون من الأفضل، توفير ما سيصرفُ عليها، من أموال وآمال”. هكذا رأى المستقلون.
الاتجاه إلى المجهول أو إلى التغيير الحقيقي؛ سيكون واضحاً من خلال تطبيق قانون الانتخابات، والذي يمنع مشاركة من يحمل السلاح، ويخفيه تحت هراء يافطة “الثلث الضامن”. تطبيق القانون لا الهُراءات الضامِنة والمُسلَّحة سوف يُحفِّز نسبة أوسع من المشاركة الجماهيرية، أمّا بقاء الوضع على ما هو عليه، وعمل المفوضية المستقلة للانتخابات، كمفوضية للأحزاب التقليدية؛ فسيكون معناه خسارة العراق و ربح الطارئين. باختصار، ما يحدث في العراق وإلى حد الآن، نكتة سمجة، مفادُها: اخسر الصندوق الانتخابي، التقط حكومة بالسلاح وبالصلف الطائفي، وزيَّنها بأصيصٍ من المستقلين الاصطناعيين.