«دجاجة» لـ «كلاريس ليسبيكتور»

«دجاجة» لـ «كلاريس ليسبيكتور»
آخر تحديث:

بغداد/شبكة اخبار العراق- كلاريس ليسبيكتور (1920- 1977) كاتبة برازيلية، من أصل أوكراني، هاجرت مع أبويها إلى البرازيل، بعد سنة من ميلادها. تُعَدّ من أبرز كتّاب جيل الـ (45) البرازيليين. وعلى الرغم من معاناتها من داء السرطان ووفاتها المبكِّرة، إلا أنها تُصَنَّف واحدة من أهمّ كاتبات أميركا اللاتينية، في القرن العشرين. من الصعب تحديد أسلوبها، لاسيّما أنها، هي نفسها، تقول إن أسلوبها هو «اللا أسلوب». تميّزت كلاريس بقصصها القصيرة ذات الأجواء الكافكوية، وخلفت إرثاً بالغ الأهمّيّة في الرواية، أيضاً، فضلاً عن عدد من كتب الأطفال، والأشعار، والرسوم.
إنها دجاجة مخصَّصة ليوم الأحد، وكانت لا تزال حيّة، لأن الساعة لمّا تتجاوز التاسعة صباحاً بعد. كانت تبدو هادئة، فقد انزوت، منذ يوم السبت، في ركن من المطبخ. لم تكن تنظر إلى أحد، ولم يكن أحدٌ ينظر إليها، وحتى عندما اختاروها متلمِّسين أجزاءها الحميمة، بلا مبالاة، لم يستطيعوا إن يحدّدوا إذا ما كانت سمينة أم نحيلة. ولم تُلمَح فيها، قطّ، أيّة لهفة.
لهذا، كانت المفاجأة كبيرة حين رأوها تفتح جناحيها في تحليق قصير، ثم تنفخ صدرها. وبعد محاولتين أو ثلاث محاولات تحليق، وصلتْ إلى جدار الشرفة الحاجز، لكنها تردّدت هناك لحظة (ما يكفي من الوقت لأن تطلق الطاهية صرخة)، وخلال برهة قصيرة كانت قد حطّت على شرفة البيت المجاور، ومن هناك، في تحليق مضطرب آخر، بلغت السطح، حيث وقفت مثل دمية زينة موضوعة بصورة غير مناسبة، ترفع في كلّ لحظة إحدى قائمتيها، بتردُّد.
استُدعيت الأسرة على عجل، ورأتْ، بذهول، أن وجبةَ الغداءِ صارت إلى جانب إحدى المداخن. وفي تذكُّرٍ من ربّ البيت للحاجة المزدوجة إلى الغداء وإلى ممارسة رياضة، بين حين وآخر، ارتدى- وهو مشرق- ملابسَ السباحة مصمّماً على اقتفاء أثر الدجاجة. وبقفزات حذرة، وصل إلى السطح الذي كانت عليه، متردّدة ومرتعشة، حينئذ، اتّخذت وجهة أخرى على عجل، فصارت المطاردة أكثر زخماً. ومن سطح إلى سطح، جابتْ الدجاجة سطوح أكثر من كتلة أبنية في الشارع. ولأنها قليلة الميل إلى الصراعات الوحشية من أجل الحياة، فقد كان على الدجاجة أن تقرِّر بنفسها الدروب التي عليها اتّخاذها، دون أيّة مساعدة من بنات جنسها. أما الشابّ، بالمقابل، فكان صياداً هادئاً، وعلى الرغم من تفاهة الطريدة، إلا أن صرخة الغزو كانت قد استحوذت عليه.
وحيدة في الدنيا، بلا أب ولا أم، كانت تركض، تلهث، مضطربة، صامتة، مركِّزة. وفي هروبها، كانت تطير، أحياناً، بجَزَع، فوق عالم من السطوح، وبينما الشابّ يتسلَّق، صاعداً إلى سطوح أخرى. بمشقّة، كانت تجد الوقت لتستردّ أنفاسها للحظات، وعندئذ، تبدو أكثر حرّيّة!
لقد كانت بلهاء، خائفة، حرّة، وليست ظافرة مثلما سيكون عليه الحال لو أن الهارب كان ديكاً. ما الذي في أحشائها ليجعل منها كائناً؟ الدجاجة كائن، وصحيح أنه لا يمكن الاعتماد عليها في أيّ شيء، بل إنها هي نفسها لا تؤمن بنفسها، بالطريقة التي يؤمن بها الديك في عُرفه. مزيتها الوحيدة هي أن هناك دجاجات كثيرة، وحتى لو ماتت فسوف تظهر، في اللحظة نفسها، واحدةٌ أخرى شبيهة بها، حتى لتبدو كما لو أنها هي نفسها.
أخيراً، في واحدة من توقُّفاتها للاستمتاع بهروبها، أدركها الشابّ، ووسط صراخ وتطاير ريش، قُبِض عليها. ونُقِلت، في الحال، محمولةً، بظَفَرٍ، من أحد جناحيها، عبر السطوح، ووُضِعت على أرض المطبخ، بشيء من العنف. وبينما هي لا تزال مشوَّشة، نفضت نفسها قليلاً، وسط قوقأة مبحوحة ومتردِّدة.
وكان أن حدثت، عندئذ، الواقعة؛ قد وضعت الدجاجة بيضة! بدت متفاجئة ومنهوكة، ربّما هي بيضتها البكر. ولكنها، بعد دخولها تجربة الأمومة، بدت مثل أمّ قديمة معتادة على الأمر. وبينما هي راقدة على البيضة، راحت تتنفّس، وتفتح عينيها وتغمضهما، وكان قلبها الصغير جدّاً يرفع الريش ويُنزله. الطفلة، وحدها، كانت قريبة، وتراقب كلّ شيء بذعر، وما إن تمكَّنت من التخلُّص من استحواذ الحدث عليها حتى نهضت عن الأرض، وأفلتت العنان لصرخاتها:
ماما، ماما، لا تذبحي الدجاجة، لقد وضعتْ بيضة! إنها تريد لنا الخير!
هُرِع الجميع مجدَّداً إلى المطبخ، وأحاطوا بالولّادة الفتيّة، بصمت. وحينما كانت تدفِّئ وليدها، لم تكن رقيقة ولا شرسة، لا فرحة ولا حزينة، لم تكن أيّ شيء، مجرّد دجاجة فحسب، ممّا لا يوحي بأيّة مشاعر خاصّة. ظلَّ الأب والأم والابنة ينظرون إليها وقتاً لا بأس به، دون أن يساورهم أيّ شعو محدَّد. فلم يحدث أن داعب أحدٌ رأس دجاجة. وأخيراً، قرَّر الأب، بشيء من الصرامة:
إذا ما أمرتِ بذبح هذه الدجاجة، فلن أعود إلى أكل الدجاج، أبداً، في حياتي!
ــ وأنا أيضاً. أقسمت الطفلة، بحرقة.
فهزّت الأمّ المتعبة كتفيها.
بدأت الدجاجة تعيش مع الأسرة، دون أن تعي الحياة التي مُنِحت لها. وكانت الطفلة، كلَّما عادت من المدرسة، ترمي محفظتها جانباً، دون أن تكبح جريها باتّجاه المطبخ. وكان الأب يتذكَّر، بين حين وآخر: «كيف أجبرتُها على الركض، وهي في تلك الحالة!». تحوَّلت الدجاجة إلى سيّدة البيت. الجميع يعرفون ذلك، باستثنائها هي. واصلت حياتها ما بين المطبخ وسور البيت، مستخدمةً قدرتها على شيئين: اللامبالاة، والجفول.
ولكن، حين يكون الجميع هادئين في البيت، ويبدون كما لو أنهم قد نسوها، كانت تمتلئ بقدر ضئيل من الشجاعة، بقيّة من آثار ذلك الهروب الكبير، وتتجوّل على قطع الآجر، رافعةً جسمها وراء الرأس بصورة متقطّعة، كما لو أنها في الريف، بالرغم من أن الرأس الصغير يخونها: تتحرَّك، مسرعةً ومهتزّةً بذلك الخوف الآليّ القديم لبنات جنسها.
بين حين وآخر، وهو ما صار نادراً، في النهاية، كانت الدجاجة تتذكَّر أنها قد وقفت، ذات مَرّة، في مواجهة الفضاء على حافّة سطح، قبيل استسلامها. وفي هذه اللحظات تملأ رئتيها بهواء المطبخ الملوَّث، وإذا كان من عادة الإناث أن يغنّين؛ فإنها ــ هي التي لا تحسن الغناء ــ تكون، حينئذ، في أكثر حالاتها سعادة، مع أنه لم يكن يطرأ، في تلك اللحظات، أيّ تبدُّل على رأسها الفارغ؛ لأن رأسها- سواء في الهرب أو في الراحة أو حين أنجبت أو في أثناء نقرها الذرة- يظلّ رأس دجاجة، الرأس نفسه الذي صُمِّم منذ بداية العصور.
إلى أن ذبحوها ذات يوم، وأكلوها… وتوالت السنوات.

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *