ما الذي يهمنا من اكتشاف موجات الجاذبية؟

ما الذي يهمنا من اكتشاف موجات الجاذبية؟
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة اخبار العراق- ليس على المرء أن يكون عالماً كي يشعر بالاثارة والحماس ازاء اي فتح جديد في علم الفيزياء النظرية، فالاكتشافات المهمة، مثل موجات الجاذبية وجزيء «هيغز بوسون»، من شأنها أن تذكي في اعماقنا روح التساؤل والعجب امام جمال هذا الكون المعقد مهما كان فهمنا لها ضئيلاً.ولكن سيبقى هناك دائماً من يطرح السؤال: لماذا ينبغي علينا أن نشعر بالاهتمام لتقدم علمي لن يكون له اثر ملحوظ في حياتنا اليومية ؟ ولماذا تنفق الأموال الطائلة على تلك البحوث؟ والحق أن من المدهش أن ترانا نهتم بدراسة ثقوب سوداء تبعد عنا آلاف السنين الضوئية وأن نعلم أن انيشتاين اثبت انه ذلك النابغة الفذ الذي عرفناه، ولكن هذا لن يغير نمط حياة الناس او طبيعة عملهم.بيد أن الواقع رغم هذا هو أن الدراسات النظرية الصرفة في الفيزياء يمكن أن تؤدي احياناً الى انقلابات مذهلة في المجتمع، بل أن العديد من الاعمدة التي يقوم عليها مجتمعنا المعاصر انما تحققت بفضل تحريات وبحوث لم يكن لها في زمنها حيز للتطبيق، مثل اقمار الاتصالات والآلات الحاسبة.

قفزة الكم

قبل 100 عام تقريباً كان علم ميكانيكا الكم موضوعاً نظرياً بحتاً لم يبتكر الا لأجل فهم بعض الخصائص المعينة للذرّة، حتى الآباء الأوائل، مثل «فيرنر هايزينبرغ» و»إروين شرودنجر»، لم تكن في بالهم تطبيقات محددة له، كل دافعهم كان الرغبة في التوصل الى فهم ما الذي يتكون منه عالمنا، وينص علم ميكانيكا الكم على أنك لن تتمكن من ملاحظة اي نظام دون إحداث تغييرات جوهرية فيه مستعيناً بالملاحظة العلمية، لذا فإن آثار ذلك على المجتمع ستكون ذات طبيعة فيزيائية اساساً وليس تطبيقية.كان «البرت انيشتاين» يسعى وراء فهم افضل لتلك القوة المهيمنة على الكون المسماة بالجاذبية، فبدلاً من النظر الى الجاذبية بوصفها قوة بين جسمين وصفها انيشتاين بأنها انحناء المكان والزمان المحيطين بأي جسم من الاجسام مثلما يتمطى الغلاف المطاطي إذا ما سقطت كرة ثقيلة عليه، وكانت هذه هي نظرية الجذب العام لانيشتاين.التطبيق الأكثر شيوعاً لهذه النظرية في يومنا هذا هو جهاز تحديد المواقع «جي بي أس»، فمن اجل استخدام الاشارات التي يرسلها القمر الصناعي في تحديد الموقع بدقة عالية نحتاج الى معرفة الوقت الدقيق الذي انطلقت فيه تلك الاشارة من القمر ومتى بالضبط وصلت الى الارض، نظرية النسبية العامة لانيشتاين تفيدنا بأن المسافة الفاصلة بين الساعة ومركز جاذبية الارض لها تأثيراتها على سرعة العقارب، كذلك تفيدنا نظريته في النسبية الخاصة بأن السرعة التي تتحرك بها الساعة نفسها مؤثرة ايضاً في سرعة العقارب، ونحن لن نتمكن من استخدام اشارات القمر الصناعي في تحديد المواقع على الارض بدقّة ما لم نعلم اولاً كيف يجب علينا ضبط ساعاتنا لقياس تلك التأثيرات، حتى انيشتاين، بكل نبوغه المذهل، ربما ما كان ليتخيل أن يظهر مثل هذا التطبيق لنظرياته بعد قرن من الزمن.

الثقافة العلمية

بعيداً عن الامكانيات والاحتمالات المستقبلية والتطبيقات النهائية للبحوث الاساسية هناك ايضاً فوائد مادية واقتصادية مباشرة، فمعظم الطلبة وحملة شهادات الدكتوراه الذين يعملون في المشاريع العلمية الكبرى، مثل المصادم الهايدروني الكبير، لن يمكثوا في الوسط الاكاديمي طول حياتهم بل سينتقلون الى ميادين الصناعة المختلفة، ولكنهم خلال فترة دراستهم في الفيزياء الاساسية يكونون قد تلقوا ثقافة على اعلى المستويات التكنولوجية المعروفة، وهذه خبرة سيحملونها معهم الى الجهات التي تعينهم، الأمر هنا اشبه بتدريب ميكانيكي السيارات على يد فريق سباقات «فورميولا واحد».اما العلماء المتخصصون في الفيزياء النظرية فان معظمهم لن يبالوا بهذه الفوائد، المباشرة أو غير المباشرة، لأن كل همهم هو تطوير قدرة البشر على فهم الكون، وربما لن تكون لهذا مردودات فورية مباشرة على حياة الناس عموماً، ولكني اعتقد انه سبب كافٍ لمواصلة البحث العلمي في الاساسيات.ربما كانت بداية هذا الحافز يوم رفع البشر وجوههم الى سماء الليل لاول مرة في الازمنة الغابرة حيث كان مطلبهم منذ ذلك الحين ان يفهموا عالمهم، لذا امضوا وقتاً طويلاً في مراقبة الطبيعة ووضع النظريات عنها، ولكننا اليوم قد حققنا تقدماً باهراً في فهم النجوم والمجرات وكذلك في فهم الجزيئات الاساسية التي تتكون منها المادة.يبدو أن اي مستوى جديد من الفهم نبلغه يأتي معه باسئلة جديدة، فما نعلمه اليوم لن يكون كافياً ابداً، وسنسعى ابداً الى مواصلة التقصي والنظر وراء الحجب المسدلة، وفي اطار هذا المعنى اعتقد أن الفيزياء الاساسية جزء جوهري لا يتجزأ من ثقافتنا الانسانية.لا مناص لنا الآن من الانتظار طويلاً كي نرى ما ستفضي اليه اكتشافات مثل «هيغز بوسون» أو موجات الجاذبية في المستقبل البعيد، ولكننا قادرون أن نتطلع ايضاً الى الرؤى الجديدة التي ستأتينا بها هذه الاكتشافات، التي ستتيح لنا فهم وحدات بناء الطبيعة، والاسئلة الجديدة التي ستأتي معها.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *