الستينيّون يُجيّلون شعرهم

الستينيّون يُجيّلون شعرهم
آخر تحديث:

د. نادية هناوي 

من الأمور التي أسهمت في تجييل شعر الستينيات حتى صار ينظر إليه بوصفه ظاهرة هو ما كتبه بعض شعراء ذلك العقد عن أنفسهم أو ما كتبه النقاد عنهم في العقود اللاحقة. وارتبط ذكر التجييل الستيني بالحداثة بطريقة معممة وحادة لا تمييز فيها بين حداثة شاعر مثلا عن حداثة قاص، وكأن الأدباء كلهم على درجة واحدة من الإبداع. والسبب أن الأدوات المستعملة في تأكيد الإبداعيَّة هي في الغالب ليست منهجيَّة تامة الدقة فقد كان النقد العراقي آنذاك في بدايات السير في طريق المنهجيّة مكتفياً بمزاولة التأرخة الأدبيّة مع شيء من النقد الاجتماعي أحيانا والكثير من النقد الانطباعي، ومن ثمّ كان التواد والتحامل وربما التطرّف سمات مهمة في نقد الشعر والشعراء الستينيين.

ولم تكن تسمية (جيل الستينيات) من صنع النقاد إنما كانت من صنع بعض الشعراء الذي امتطوا صهوة التنظير وحجتهم أن أعوام الستينات في العراق لم تكن اعتيادية بما كان يجري على أديمها من تغيرات مفصليَّة كبيرة محليَّة وعربيَّة وعالميَّة. وأول تداول لمقولة (جيل الستينيات) كان إعلاميّا على سبيل المداعبة ثم عزز تداولها استعمال مجلة (الكلمة) لها كعناوين لملفات منها ملفها الخاص المنشور في العدد الثالث أيار عام 1973، وفيه أطلق حميد المطبعي مقولة (ما بعد الستينيات) ثم العدد الخامس أيلول عام 1973 وفيه وجّه دعوة إلى ثلاثة شعراء هم غزاي درع الطائي وخزعل الماجدي وعبد الحسين صنكور لكتابة القصيدة اليوميّة التي فيها يتحول الحلم الفردي إلى حلم جماعي على أساس أن هذا اللون من الكتابة الشعرية يمثل ما سماهم الشعراء السبعينيين. وهكذا شاع الفهم العقدي للجيل وكُثر استعمال توابع مقولة (جيل الستينيات) مثل ما بعد السياب وما بعد الرواد وما بعد السبعينيات على ألسن النقاد والشعراء مثل فاضل ثامر وسامي مهدي وفاضل العزاوي وحاتم الصكَر وعبد الجبار عبّاس وطرّاد الكبيسي حتى نهاية القرن العشرين. ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن يكون التجييل العقدي ظاهرة خاصة وإشكالية في نقدنا العراقي وتكون لهذه الإشكالية حركيتها التي أدى فيها بعض الشعراء والنقاد دور الموجه والمتحكم فيها.وليس هذا الشأن الإشكالي مثار إرباك إن نحن تفحّصنا مجرى حركة الشعر في الستينيات وتبينا النصوص وبحثنا عمّا فيها من حداثة تعطي ضوءا ولو يسيرا على وجود حداثوية ستينية عامة انطبع بها الشعراء بالعموم أو بالعكس أي التمسك بحداثة الخمسينيين والبناء عليها بما يفرغ تسمية الجيل الستيني من القطيعة ويضع المفاهيم الجمالية في إطار التمذهب أو التمرحل الذي هو أمر طبيعي تمر به أية حركة شعريَّة بين الفينة والأخرى وفي أي مكان وزمان مما له علاقة بالصور والرموز والتقاليد والتعابير والموضوعات مما لا إشكاليّة فيه بتاتاً فالتحديد الزمني ليس قاطعا بالتجييل.

وحين يكتب شاعر نقدا لا يعني أن له الحق في الحكم بمسطرة، بها يقيس تجارب أقرانه ويضع لكل تجربة مقاسها مبتكرا معايير القياس من لدن تجربته هو مخضعا غيره لها. ولا شك في أن لشعراء يجمعهم زمان ومكان محددان أن يكتب أحدهم عن الآخر فلقد التقى أليوت بباوند وأراه قصيدة بروفروك ومن ثم الأرض اليباب كما اطلع جيمس جويس روايته صورة الفنان في شبابه على صديق كاتب وأشار إليه الأخير بضرورة أن تطبع على نحو متسلسل لكن ذلك شيء وامتلاك زمام المبادرة بالحكم والتجييل شيء آخر.فالحداثة الأدبيَّة في انكلترا لم تكن رهناً بأليوت أو جويس مع ما لهما من تميز إبداعي، لأنّ التجربة الواحدة تظل في حالة تغير كما أن فاعليتها بالعموم تختلف في درجة مساهمتها في تحديث الحركة الأدبيَّة. وأليوت جاء متأخرا إلى مضمار الشعر لكنه سرعان ما احتل طليعة المشهد الشعري بينما كان من أقرانه من برز مثل ووندهام لويس وفورد دماس فورد لكن بروز هؤلاء سرعان ما توارى عن الأنظار بظهور أعمال اليوت المبكرة ذات الشأن والأهمية. 

وبهذا لا تكون للتحديد الزماني أهمية في مقايسة الإبداع والحكم عليه وتصنيفه وإنما هو الفن الذي على وفقه يتجايل الشعراء فيتقاربون ويتخالفون بعضهم مع بعض. وهم وإن بدوا زمنيا كوحدة متجانسة تنتمي إلى مرحلة أو حقبة معينة، فان هذا التجانس والانتماء هو في الحقيقة مموه وخلائطي فيه الشاذ والمارق، وفيه المتطامن والنافر، وفيه السائر مع التيار والمعاكس له في مسيره، وفيه النشط الفاعل وفيه الخامل غير المنتج. فكيف بعد ذلك لا يتغاير شعراء الزمن الواحد وتتنوع مشاربهم وتتباين توجهاتهم فلا تتوضح سواء أكانوا على تخوم التحديث أم في بؤرة مركزه الإبداعي؟!.

وليس من المنطقي تعميم التجارب المميزة والخاصة على عقد واحد، فيظهر شعراء العقد الستيني مثلا وكأنّهم كلّهم ذوو تجارب مميزة حتى وإن كانت لبعضهم ملامح جزئيَّة فإنَّ التجارب المميزة تظل متغايرة بوضوح واستقلال يتجاوز العقد الواحد إلى عقدين، وقد يظل تميزها ممتدا إلى عدة عقود. هذا إذا علمنا أن التغاير الموصوف بأنّه تجديد وتحديث مشروط فيه أن يكون ناجما عن توجّسٍ ثقافيٍّ واعٍ وميلانٍ خاصٍ ومتحمّسٍ نحو التجريب كأداة بها يتحقق التنقيح والتعديل رفضا للإعادة والتدوير وبعيدا عن القطع والجزم وبتوالٍ سريع يفضي إلى التغيير الذي نصيبه دوما الاقتناع كما هو الحال مع تجربة حسب الشيخ جعفر في تطوير بنية قصيدة التفعيلة أو تجربة سركون بولص في تطوير أساسات قصيدة النثر التي أرساها حسين مردان أو تجربة عبد الرحمن طهمازي في وضع قواعد القصيدة الفكريَّة وتجريب فكرنة الشعر بطريقة استغواريَّة. 

علما أنَّ الفروض التجريبيَّة لا توصف بأنَّها تجييل إلّا بالإلحاح عليها بإمعان من دون الاقتصار في ذلك على ممارسة الشعر وحده، بل يشمل التنظير لها أيضا، وهو ما لم يتحقق لا بكتابة البيانات الشعريَّة ولا بالتحليلات النقديَّة التي تضمنتها الشهادات السيريَّة والمذكرات التوثيقيَّة ولا بمقولات الحداثة الغامضة. ولا مراء في أنَّ الأمور بمقدماتها، ولقد كان البيان الشعري في ولادته الأولى عام 1969عبارة عن مقالة كتبها الشاعر فاضل العزاوي كافتتاحيَّة يُدشن بها العدد الأول من مجلة فتيّة هي (شعر 69) ــ كما ثبّت شهود ولادة البيان الشعراء الأربعة الذين وقعوا عليه ــ وأن شاعرين منهما انقلبا على بعضهما، وكل واحد يدعي الأرجحيَّة له في كتابة البيان أو يراهن على أن فكرة البيان هي من بنات أفكاره. ولم يتواطأ حسب الشيخ جعفر مع القيم الحداثويَّة التي كان يُنادى بها نقديّا أو شعريّا فلم يكن كغيره منتفخ الأوداج بالأنانيَّة، يزيح شاعرا هنا ويفتل عضلاته على شاعر هناك، بل كان دائم التفكير في كل لحظة بتجربته راغبا في أن يكتب قصيدة وجوده وفنائه برومانسيَّة تتمرّد على إيقاعات قالب قصيدة التفعيلة التي فيها جرّب نوعا شعريّا كان كثيرون ينظرون إليه على أنّه نظام صوتي صارم وقالب قديم وقاسٍ هو السونيت الشكسبيري.وإذا كان حسب الشيخ جعفر أبان الستينيات وقبلها وبعدها يجرّب في السونيت، فإنَّ شعراء آخرين مجايلين له كانوا مشغولين بأزمة كانوا يرونها طبيعيّة وليست دعائيّة وتتمثل في اعتبار أنفسهم جيلا قطع الصلة بالسابقين من الروّاد والمؤسسين الذين اعتبروهم حجر عثرة أمام أي ظهور شعري، معبرين بذلك عن شعور متدار خفي بعدم القدرة على تجاوز الرواد أو إضافة أي ابتكار جديد إلى القصيدة العربيّة. وبسبب هذا التصور الذي عمقه تأثرهم بموضات التحديث الغربيّة المتقلّبة ونزوات التحدي والتمرّد الطارئة والغريبة فضلا عن أهوال السياسة العاصفة مطلع الستينيات، لم يعد يهم الشاعر سوى إثبات وجوده الشخصي قبل الإبداعي، معوّلا على غيره من الفنانين والتشكيليين والكتّاب الصحفيين، منقطعا عمن يخالفه الرؤية من أقرانه الشعراء ناظرا إلى الذين يوافقونه الرؤية بتعاطف بوصفهم واقعين في أتون واحد وبغضّ النظر عن التميز الشعري أو ضعف التجربة وفقرها. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *