الموشّح الأندلسي من عثمان الموصلي إلى داخل حسن

الموشّح الأندلسي من عثمان الموصلي إلى داخل حسن
آخر تحديث:

كريم راهي 

 من المعروف أن للموسيقار زرياب الموصلي دوراً فاعلاً في نقل الموسيقى الشرقية إلى الأندلس وبالعكس، وهو من جملة الأسباب التي قامت عليها أسس الشعر الغنائي المستند إلى بعض الأوزان الخليلية المعروفة، إضافة لما ابتكره الأندلسيون من أوزان لا تنتمي لعروض الفراهيدي، ذلك أن الموسيقى -والأوزان الشعرية ضمناً- وليدة التباين الجغرافي واختلاف الأعراق. وما سنسلّط عليه الضوء في مقالنا هذا هو التأثير اللاحق للأندلسيّات على الغناء العراقي بالخصوص،وما اشتهر منه على أنه متأثر بالفنون إياها. وإن من أشهر ما كتب به شعراء الأغنية العراقية من أوزان الموشّحات، هو وليد بحر الرمل العروضي ووزنه (فاعلاتن) المكررة ثلاث مرات، والذي بات شعراء العاميّة يطلقون عليه الاسم الذي يردّونه به إلى أصوله؛ وهو (الموشّح الأندلسي).

إن هذا الميزان الشعري في الأصل (أي بحر الرمل) يُنظم به ويُغنّى سواء أكان القالب موشحاً أم شعراً صافياً، فالنجفيّون ومن تبع خطاهم من شعراء الفرات الأوسط، كانوا مولعين بالنظم في هذا البحر العروضي، وتكاد لا تخلو قصائدهم الحسينيّة منه في كل موسم من مواسم عاشوراء، ولطمياته تكون عادة على ضرب الجورجينة، ومثالها الأقرب ما قرأه الرادودان الراحلان جاسم النويني وحمزة الزغير من أشعار الشاعر الطويرجاوي الشيخ إبراهيم الشيخ حسون، ومنها: «اليوم زينب حشّمت وليانهه، زينب تناديك يصَبي عيني، يالغزيت العالم بسبعينهه»، والأخيرة لي معها ذكرى قد أدونها في موضوع مستقل. 

ولم يفلت من تأثير الموشّح النجفي حتّى المحدثون في كتابة القصيدة العامية، فهذا الشاعر الراحل (صاحب الضويري) يكتب خارج النظم الرباعي، وقريباً من روحية البادية في التزام قافية للصدر وأخرى للعجز مثل قصائده ذوات المطالع: «هاي هيّه ومن تگع بيهه چتيل، الماي شال تراب لو مر عالتراب، آنه ذاك الباعك وما رد شراك».. والكثير من غزلياته المتفرّدة. وهو ما سبق ونظم عليه الشاعر عبد الأمير المرشد في إحدى قصائد المناسبات النجفية: 

“سيّرت نفسي بسفينة فكرتي فرح تحمل وبوفاهه امگصّره 

والعگل سكانها يا سيدي والعگل للبشر زينه أوجوهره”.

إن اختلاف الموشّح الأندلسي (ويسمونه المخمس) عن النجفي (المربّع) هو فقط في قالبه المبنّي على تعدد القوافي وعدد الأشطر، ومن أمثلة الأول ما ورد في ديوان الشاعر إبراهيم الطباطبائي (ت 1319ه) المطبوع عام 1332، (ص159)، وقد أورثه الشعر النجفي حتّى دخل كشعر مناسبات حتّى بالعامية: 

شام بالأبرُق برقاً أومضا وامقٌ حلَّ بقلبٍ مولعِ 

شفّه برقُ التصابي فصبا 

لهوى الغيد وأيام الصبا 

وإذا ما نسمت ريح الصبا 

ذكّرتهُ عهد عصرٍ قد مضى بالحِمى ما بين تلكَ الأربُعِ.

وهنا (وبعيداً عن التجنيس) يتوجّب الانتباه إلى طريقة التقفية في المذهب ومردّها بعد ذلك إلى الأغصان بعد ثلاثة أشطر ذوات قافية متحدة وعودة لقافيتي المذهب ثانية، وهو ما عمد أيضاً إلى النظم فيه الشاعر السيد محمد سعيد الحبوبي في الكثير من الموشحات التي احتوى عليها ديوانه، ومن أشهرها ما حاكى به الشاعر الأندلسي ابن زهر الحفيد 

أيّها الساقي ومن خمر اللمى نشوتي فاذهبْ ببنت العنبِ 

أين هذا الخمر من ذاك الرضاب 

وهو عذبٌ للمعنىّ وعَذاب 

فاسقنيها من ثناياها العِذاب 

واطفِ فيها من فؤادي الضُرَما واقضِ هذا اليوم فيها أرَبي 

ويمكن مقارنة ذلك بالسالف من الأندلسيّات التي كُتبت على هذا القالب، وأشهرها موشّح (أيّها الساقي) لابن زهر الحفيد، الذي لحّنه الفنان الراحل روحي الخمّاش وأدّته فرقة الموشحات العراقية في بدايات السبعينيات من القرن الفائت، وكان على ضرب إيقاع (الجورجينة) الذي ميّز الموشّح العراقيّ عن غيره: 

أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمعِ 

ونديمٍ همتُ في غرّته 

وبشربِ الراحِ من راحتِه 

كلما استيقظ من سُكرته 

جذب الزقّ إليه واتّكا وسقاني أربعاً في أربعِ 

وقد غنت الفرقة على نفس الميزان العروضي والضرب الإيقاعي والنغم موشح (بالذي أسكر من عهد اللمى)، وغيره. 

وعلى هذا المنوال وما شابهه نسج شعراء العامية النجفيّون قصائدهم المكتوبة خصّيصاً للمناسبات، واشتهر بذلك النوع من النظم الشاعر (السيد عبد الحسين الشرع)، ففي مرثيته لابنه محّي التي نُشرت في ديوانه (منهل الشرع) نقرأ: «نار گلبي تشبه لنار الخليل.. وبالحزن يعگوب چنّي الثاني».. إلخ، وله أيضاً موشّح (يا طبيب صواب دلّالي كلف) الذي أورده الشاعر جابر الشكرچي في ديوان (سلوة الشباب) دون نسبته للسيد الشرع الذي كان يومها معتمّاً بعمامة سوداء، وقد سبّب ذلك النشر بعض اللغط حينها -راجع التفاصيل والنص الكامل في كتابنا (قصائد خالدة من الشعر الشعبي العراقي)- وقد كان مستهل الموشح الأندلسي للسيد الشرع: 

يا طبيب صواب دلالي كلف لا تلچمه بحطّة السمّاعه 

بعد دگات الگلب ماتنعرف  تنگطع ما بين ساعة وساعه

وهو الموشّح الذي جاراه شعراء كثيرون، وقد غنّى الراحل (داخل حسن) ما هو معروف عنه من أغنية جارى بها شاعرها الموشّح إياه، بعد أن قام بالتلحين ووضع الموسيقى لها الملحّن العراقي الراحل (عبّاس جميل). 

وللحقيقة فإن أصل لحن الأغنية والموشّح هو للملا عثمان الموصلي في تنزيلة (إنشاد ديني) قديمة حملت عنوان: «يا إلهي للنبي زد اشتياقي»، وما زال مغنّو الموصل يؤدون على منوالها تنزيلة «يا قضيب البان احفظ لي حميتي.. لاطبخ الكشكة وأغلق باب بيتي»، وهي على نفس الوزن الشعري لكن ليست على نمط الموشح. والكشكة هي (الحبيّة) الموصلية، أما (قضيب البان) فهو من علماء عصره ومن أهل الكرامات وقد ورد ذكره في كتاب (تاريخ أربل) على أنه «من أَهْل الْمَوْصِل وقبره ظاهرها معروف يزوره النَّاس، كَانَ من المعمّرين، لَهُ كرامات تحكى عَنْهُ مشهورة يتداولها النَّاس»، وربما يكون هو من ينسبه الأيزيديون على أنه من مشايخهم باسم (قادي بالبان)، على أن هذا الاختلاف في النسب لا يدخل ضمن موضوعنا، وإنما ذكرناه للتوكيد على أن الأغنية العراقية نشأت أصلاً في الموصل ومن ألحان دينية للملا عثمان، وهذا ما خلصنا إليه وما سيدخل ضمن ما نعكف على كتابته حالياً في موضوع (جذور الأغنية العراقية).

ولقد انتبه الموسيقي العراقيّ ناظم نعيم إلى أن هنالك فنّاً شعرياً عمره ثلاثة قرون، ارتبط بالشاعر الفرات أوسطي (أبو الغمسي) الخزاعي، وهو فن (المعنة) ومثله (الهات) -راجع كتابنا (قصائد خالدة..)- الذي ينتمي إلى بحر الرمل أصلاً، فطلب من الشاعر جبّوري النجّار النظم على نفس القالب الشعري (وهو الميجنا عند الشاميين) وليفيد من اللحن الجاهز للملا عثمان الموصلي، فيقدّم بصوت المطرب الراحل ناظم الغزالي الأغنية ذائعة الصيت «يامّ العيون السود ما جوزن أنه» في فيلم (مرحبا أيها الحب). وقبلها كان مطربو المقام قد قدّموا على نفس اللحن والميزان الشعري بستة: «إلا لسافر للهند واشوف حبيبي»، وقد غناها من يهود العراق المطرب سليم شبث المُهجّر مع من هُجّروا في الخمسينيات. ومذهبها الأصلي من الرمل، مع خلل عروضي واضح في البيت الثاني الذي حوى على ما يدعم فرضية أنها من أغاني يهود العراق، إذ كانت هنالك جالية كبيرة من آل ساسون في الهند، وهم من صدّروا (العنبة الهندية) للعراق، والحديث عن هذا يطول، عنك أن المعشوق “يسكر ويغنّي”:

إلا لاسافر للهنِد واشوف حبيبي يگلون حبّي عندكم هوّه نصيبي 

يا إلهي في غرامه سودننّي يگلون صْبَينا عندكم يسكر ويغني 

أما غصونها فقد جاءت على وزن الدارمي، كشأن أغلب بستات المقام العراقي:  

حسبالي طيب ذات باسمك تناخيت بعد الحمل ما طاح منّي تبريت 

شحچي شگُل للناس لو سائلوني آنه التركت هواي، لو وهدنوني 

يا گليبي بطل نوح، نوحك شفادك ما تدري باليهواك تارِك ودادك 

وللطرافة، وعوداً على ولع النجفيين عامة بموشحهم الوافر، فيُروى أنه يوم شُيِّع الملّا عبد المحمّد، وهو من مشاهير خدّام أهل البيت، هتفوا على الوزن إيّاه وهم يحملون نعشه: «وداعة الله يا نعش والينه… هاي هيّه لو بعد تلفينه؟».  

على أن الكاتب الراحل جعفر الخليلي يذكر في كتابه الشيّق (هكذا عرفتهم) عن المرجع الكبير السيد أبي الحسن الأصفهاني، (ت1946)، أنه حين نفقت حمارة له كان يمتطبها في بعض شؤونه (للمزيد من التفاصيل الممتعة راجع الجزء الأول من الكتاب المذكور)، شيّعها أطفال النجف وهم يجرجرونها في «العگود» هاتفين بالأهزوجة إيّاها، مع بعض ما تقتضيه من تحوير: «وداعة الله يا جحش والينه… هاي هيه لو بعد تلفينه». 

ولربما للسبب ذاته، كان أطفال «المشاهدة» يهتفون طرافة، في محاكاة للموشّح إيّاه، ونكاية بمن يسمّونهم «البرّاويين» الذين يلصقون بهم تهم التخلّف العنصرية، الأهزوجة التي سمعتُها في طفولتي والتي تبدأ بشطر: «إنّما المعدان بولٌ ونِجس»! لعداوة بين النجفيين وسكان القرى المحيطة بهم تعود إلى أكثر من مئة سنة -كتبنا عنها مقالاً في جريدة (دليل النجف) بعنوان (مشاهدة أم معدان)- وقد نسج أحد الظرفاء –وهو لا يزال حيّا يُرزق- على المنوال نفسه قصيدة أحفظ منها «يا إله الكون يا ربّ السمه… عبدك المظلوم لطفاً كلِّمَه». عنك ما ذكرناه في مقالنا المُشار إليه عن المونولوج الذي غنّاه الفنان النجفي الراحل (عبد الأمير الترجمان) وهو من نظم الشاعر النجفي الظريف (حسين قسام)، وكان بمستهل: «المعيدي مات موته معلعلة»، وهنالك طرافات لا تنتهي بهذا الصدد قد نتحدّث عنها لاحقاً.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *